رسالة لم تصل

قصة قصيرة بقلم / د. عدلي سامي
في الصباح، كانت رائحة المطر لا تزال عالقة في الهواء.
خرجتُ إلى الفناء أبحث عن نسمةٍ جديدة تغسل عني تعب الليل،
لكن الريح حملت إليّ ما لم أتوقعه:
ورقة صغيرة كانت ملتصقة بجدار الطين، تلوح لي كأنها تنتظر منذ أعوام أن يمرّ أحد ليقرأها.
اقتربتُ منها.
كانت صفحة ممزقة من المفكرة نفسها، مبلّلة بعض الشيء،
وبخطّ أبي، الذي كنت أحفظ انحناءاته كما أحفظ تضاريس وجهه، كُتب:
“إن تأخرتَ، فاعذر قلبي إن سبقك.
أنا لا أترك مكاني، أنا أترك أثرًا، وأنت الأثر الذي انتظرته الأرض.”
توقفت.
كأن كلّ ما عشته من قبل لم يكن إلا طريقًا لهذه اللحظة.
الريح تسكن، والبيت يصمت، والزيتونة من بعيد تهتزّ في ضوء الشمس الأولى.
جلستُ على العتبة، أمسك الورقة بين يديّ كمن يمسك بيده الأخرى.
لم تكن رسالة وداع، كانت رسالة حياة.
أبي لم يكتبها ليرحل، بل ليعلّمني كيف أعود.
فهمتُ حينها أن السطر الذي وجدته في المفكرة — “ستجدني حيث بدأت” —
لم يكن لغزًا، بل دعوة.
⸻
دخلتُ البيت من جديد، جلست أمام الجدار الذي علّق عليه سترته،
ورحت أقرأ الكلمات بصوتٍ مسموع، كما كان يفعل هو حين يعلّمني القراءة في طفولتي.
ومع كل كلمةٍ كنت أنطقها، كنت أشعر أن الغياب يتراجع خطوة،
وأن صوتي لا يخرج مني وحدي، بل منه أيضًا.
شعرتُ أن شيئًا في صدري ينكسر ليتسع،
كأن الحنين نفسه يخلع عباءته القديمة ليلبس ثوب الفهم.
⸻
في المساء، جلست تحت الزيتونة الأخيرة.
كانت الريح هادئة، والسماء قريبة جدًا،
والأرض تفوح منها رائحة البدايات.
أخرجت الورقة من جيبي، وضعتها بين الجذور،
وقلتُ بصوتٍ لا يسمعه سواي:
“وصلت الآن يا أبي.. وصلت.”
⸻
وحين أغمضتُ عينيّ، سمعت صوته،
هادئًا، كما كان دائمًا، يقول:
“كل ما أردتُه يا سالم، أن تعرف بعد التيه.. أين مكانك.”
عدلي سامي
أخصائي علاج طبيعي وكاتب