رسالة من مجهول “حين يصير الصدق مأزقًا”

بقلم / حسن السعدني
لم أكن أعلم أن دخولي هذه اللجنة سيعلّمني كيف يكون الصمت خيانة.
وصل خطاب الانتداب كأنّه كتاب قدر، يحملني إلى لجنة في مدرسة تجريبية على أطراف المدينة، مدينة أقرب إلى الريف منها إلى المدن، ولكنّها أنظف من كثيرٍ من العواصم… كل صباحٍ يرشّ عمّال مجلس المدينة الطرقات بالماء، ربما ليغسلوا وجع الواقع، ومما قد يضايق سائقي سيارات الأجرة.
دخلتُ المدرسة متوجّسًا، أراقب الجدران والنوافذ كمن يتقصّى شيئًا لا يُرى. أعددنا اللجان وانتظرنا الرئيس. وصل بعد ساعة، رجل هادئ لكن في عينيه شيءٌ من القلق العميق. شكّل الكنترول بحضور المراقب الأول ومراقب الكنترول، وأدخل اثنين مساعدين إضافيين، لكنهما “خارج الحسابات”.
وفي أول اجتماع، صاح رئيس اللجنة فجأة:
“لابد من فصل الكهرباء فورًا!”
سألته بدهشة:
“لماذا؟”
ردّ وهمّه يسبق كلماته:
“الوزير يسمع كل شيء عبر الإنترنت… نحن مراقَبون ياجماعة .”
فُصلت الكاميرات والكمبيوتر، وانطفأت الأضواء… لكن شيئًا في داخلي بدأ يضيء، هذا الشيء اسمه القلق… قلقٌ من هذا الرجل.
مرّ اليوم الثاني، واللجان شبه خالية، فلم يحضر إلا قلة من الملاحظين.
ومع أول امتحان، بدأت التمثيلية الكبرى.
صرخ رئيس اللجنة:
“اجمعوا هواتف المعلمين فورًا.”
تمّ الأمر، ووزّعت الأوراق، وبدأ الامتحان… أو هكذا خُيّل لي.
في داخل اللجان، تباينت مواقف الملاحظين:
ملاحظ ذكي يهدّئ روع الطلاب، حتى إذا ما اقترب وقت تسليم أوراق الإجابة، سمح لهم بإجراء مناقشات شفوية.
وآخر نام على باب اللجنة، لا علاقة له بما يحدث داخلها، وربما استيقظ إذا مرّ عليه المراقب.
ويمر الوقت، ومن حينٍ لآخر، يتجوّل المراقب الأول، يوصي ويهمس ويتحدّث عن “الاهتمام بمشاعر الأهالي بالخارج”.
قال للملاحظين، واحدًا بعد الآخر:
“يا جماعة، لا تثيروا الأهالي.”
وذات مرة قلت لرئيس اللجنة:
“هناك من يصيح بالإجابات من خارج المدرسة!”
فردّ بهدوء:
“يا أستاذ، مهنتي بالداخل، ولا شأن لنا بالخارج.”
ثم استطرد: “لا تثيروا الأهالي…”
واستمر العرض المسرحي…
العامل يُسلّم أوراق الغش في الحمّامات.
رئيس اللجنة يتغاضى، رغم علمه.
عامل العهدة “المنقول” بقرار رسمي ضمن “نظام التدوير”… لم يغادر بل بقي يوزّع ويرتّب ويسلّم بنفسه، كأنه محور الخطة.
أفكّر بيني وبين نفسي:
هل كنتُ مجرد ترس في آلة مكسورة؟
لماذا لم أصرخ؟ هل خفتُ على نفسي؟ أم خفتُ من الحقيقة؟
وفي نهاية أحد الأيام، سلّمني المراقب الأول ورقة إخلاء الطرف، وقال:
“لا تشغل بالك يا محترم… وهذا إخلاء طرفك.”
خرجت من اللجنة، لا منتصرًا ولا منهزمًا… بل كمن نجا من حريق، لكنه ما زال يشمّ رائحة الدخان في ملابسه.
في داخلي غصّة، وشيء يشبه الذنب، رغم أنني لم أشارك…
لكني كنت هناك.
رأيت، وسكتُّ…
وها أنا أكتب… لأني لم أستطع أن أصرخ.