أراء وقراءات

رسالة يعقوب إلي عزيز مصر

بقلم/ الدكتور محمود خليل*

استبد الحزن بنبى الله يعقوب بعد أن فقد ولده الحبيب يوسف، ومن بعده شقيقه -من الأم- «بنيامين»، الذى كان سنده وونسه بعد اختفاء يوسف، ومعهما ولده الأكبر «شمعون» الذى رفض العودة مع إخوته، بعد أن خذلوا أباهم وأضاعوا «بنيامين»، رغم ما أخذه عليهم من عهود ومواثيق بالعودة به.ثلاثة أبناء منهم الكبير والصغير والحبيب أوجع اختفاؤهم قلب الأب «يعقوب»، فقرر أن يبعث برسالة إلى عزيز مصر الذى حصر ولديه الصغير والكبير، يشرح فيها مأساته ويطلب منه ردهما إليه.

قال «يعقوب» فى رسالته: «أما بعد فإنّا أهل بيت موكل بنا البلاء، أما جدّى فشُدّت يداه ورجلاه، وأُلقى فى النار فجعلها الله عليه برداً وسلاماً، وأما أبى فشُدّت يداه ورجلاه ووضع السكين على حلقه ليذبح ففداه الله، وأما أنا فكان لى ابن وكان أحبّ أولادى إلىّ فذهب به إخوته إلى البرية، فعادوا ومعهم قميصه ملطخاً بدم وقالوا: أكله الذئب، وكان لى ابن آخر أخوه لأمّه، فكنتُ أتسلّى به، فذهبوا به ثم رجعوا وقالوا: إنه سرق وإنك حبسته، وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً فإن رددته علىّ، وإلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك».

حروف الرسالة تنطق بالألم والحزن كما هو واضح، لكنها تصدح أيضاً بالقوة والثقة بالذات النابعة من الأخلاق، التى كانت تشكل الحصن الحصين لأسرة يعقوب. الأخلاق بالنسبة لهذه الأسرة كانت تمثل الرادع الأول والأساس الذى يحكم تفكير أفرادها، حتى فى اللحظات التى يتجاوزون فيها الأخلاق!.

لقد تراقص فى مخيلة «الإخوة» حائط الأخلاق الذى يحكم للأسرة وهم يخططون للكيد لأخيهم يوسف.. يقول تعالى: «اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِن بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ».

لقد كانوا واعين بالإثم العظيم الذى يرتكبونه وهم يتآمرون على أخيهم، وكان ضميرهم يوجعهم، والدليل على ذلك أنهم قالوا لبعضهم البعض: «وتَكُونُوا مِن بَعْده قَوماً صَالحين»، ويتأكد لك ذلك إذا راجعت نصيحة أحدهم بالبعد عن التورط فى جريمة قتل يوسف، والاكتفاء بإلقائه فى البئر: « قَالَ قَائِلٌ مِّنْهُمْ لَا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَأَلْقُوهُ فِى غَيَابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِن كُنتُمْ فَاعِلِينَ».

حائط الأخلاق مثّل الركن الركين الذى أسندت إليه أسرة «يعقوب» ظهرها حتى فى اللحظات التى تجاوز فيها بعض أفرادها الأخلاق، وقد كان يعقوب عليه السلام واضحاً فى التشديد على هذه الحقيقة وهو يخاطب عزيز مصر، حين قال له: «وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً».

لم يكن الأب الجريح يعلم وهو يبعث بهذه الرسالة أنه يوجهها إلى «يوسف»، وحينما وصلت الابن الحبيب اغرورقت عيناه بالدموع، وربما يكون قد توقف كثيراً أمام هذه العبارة التى تحدد مفتاح فهم هذه الأسرة، مفتاح الأخلاق: «وإنّا أهل بيت لا نسرق ولا نلد سارقاً»، وهو الحائط الذى كان «يعقوب» يتشبث به، وهو يهدد عزيز مصر بالدعاء عليه دعوة تدرك السابع من أولاده.

كأن الأخلاق هى أساس الاستجابة لدعاء المضطر، فالمضطر الخلوق يجد دعاؤه الطريق إلى السماء، فالإنسان الذى هشمه التعب والوجع من تجربة البشر وأدرك أنهم لا ينفعون فى شىء، وأن النافع والضار هو الله، وتعلّم إذا سأل ألا يسأل عبداً مثله، بل يسأل الله، وإذا استعان لا يستعين بعبد مثله، بل يستعين بالله، هو الوحيد الذى يصح أن يحذر الآخرون دعاءه، كما فعل يعقوب الرجل الذى علمته التجربة ألا يمد يده إلا لله، طالباً منه أن يرفع عنه ظلم البشر.

*كاتب صحفي وأستاذ الإعلام بجامعة القاهرة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.