سلسلة الحقيقة المرة للدول الحرة .. (٢) الثقافة عدو المستعمر
بقلم / إيمان أبوالليل
في ندوة ثقافية عالمية عن توثيق الأحداث، وقف أحد المؤرخين شامخ الرأس، وعيناه كأنها تسبح في عالم موازي، ثم ابتسم ابتسامة خفيفة، وعاد من خياله لإلقاء كلمته في الندوة الثقافية.
نظر المؤرخ للحضور وقال: عفوا، لقد سبحت في بحر خيالي، لكن لم أبتعد كثيرا وعدت إليكم مسرعا.
ضحك الحضور وهم في حالة شغف لمعرفة في ماذا سبح المؤرخ في بحر خياله!
وعلى الفور قام أحد الصحفيين متطفلا، وسأله قائلا: ممكن نعرف كنت سرحان في إيه؟
فقال له المؤرخ بنبرة هادئة كأنها نابعة من عمق روحه، وكأن الكلام أتى من ماض بعيد: بالتأكيد جميع الحاضرين يعرفون أن محاضرة اليوم، عن ثقافة توثيق الأحداث، ولهذا سبحت في معنى الثقافة نفسها، وكيف أن اليوم أدرك العالم بأن الحرب والسيطرة ليست بقوة السلاح، بل أصبحت بالفكرة والكلمة.
.. وأشار المؤرخ للصحفي بأن يجلس، وبدأ في استرسال ناعم في محاضرة اليوم.. قائلا :
المستعمر وتدمير الهوية
أخبرنا التاريخ بأن أول ما يقوم به المستعمر عند دخوله أي بلد، هو حرق المكتبات وتشويه الجداريات التي تحكي عن يوميات وثقافة شعب هذا البلد.
وبعدها يدمرون التعليم وربما يغتالون العلماء، والأخطر من كل هذا هو السعي لتدمير هوية هذا الشعب، عن طريق بث الأفكار المختلفة عن هويتهم، أو عن طريق تشويه التاريخ، أو حتى القيام بسرقة هذا التاريخ، كما حدث في الصين، فهناك دائما تاريخ معلن، وأخر مخفي أو زج به في دهاليز النسيان.
تعتبر الصين من البلاد صاحبة الحضارة المميزة، شأنها شأن حضارات البلاد العظيمة، والتي فقدت عن عمد الكثير من الوثائق واندثرت بعض ثقافتها.
تم إنشاء القصر الأسطوري في بداية القرن ال١٨، وقد تم تخصيص هذا القصر ليعيش به الأباطرة حكام الصين من سلالة تشينج التي حكمت لفترة طويلة.
في عام ١٨٦٠، كانت الصين تشتهر بالمتحف الثقافي للأدب والتراث في القصر الصيفي بوان مينج بوان وكان القصر مشيدا بفن وإبداع هندسي، فقد كانت الصين وقتها من أقوى الامبراطوريات في قارة أسيا.
وقبل أن يكمل المؤرخ كلامه، علق أحد الحضور: وطبعا تم هدم القصر؟!
فقال المؤرخ المحاضر: لا مازال القصر منتصبا شاهدا على العصر، ليعلن مع كل شروق جديد للشمس بأن التاريخ لا ينسى.
وأكمل استرسال المحاضرة..
حروب الأفيون
كانت حروب الأفيون هي السلاح الأقوى الذي تستخدمه بريطانيا لتدمير الصين ودعمت فرنسا بريطانيا في طلبها بفتح الحدود للتجارة الخارجية، خوفا من دمار اقتصادي قد يحدث، وخوفا على مصالح البلاد في الصين وشرق أسيا.
ومع إصرار الصين على منع دخول التجارة البريطانية لأراضيها، قام تحالف بريطانيا وفرنسا باقتحام القصر الصيفي، وكما هي العادة لأي مستعمر، يدخل البلاد بالقوة فيسرق ويفسد كل جميل، وخاصة الثقافة والتراث الذي يشكل هوية الشعوب، أشعل تحالف بريطانيا وفرنسا النيران في القصر، وعبثوا بمحتوياته.
وأصبح هذا الحدث ندبة مؤلمة في قلب كل شعب الصين، وقاموا بعد ذلك بالتعبير عن حزنهم، من خلال الدراما الصينية التي وثقت هي الأخرى أحداث القصر الصيفي.
ولأن المستعمر يرعبه العقل، قام على الفور بحرق الكتب النادرة وتدمير القطع الأثرية وسرقة الكثير منها،
لقد تم سرقة ما يقارب مليون ونصف المليون قطعة أثرية من الصين، ويشهد على ذلك متاحف بريطانيا الممتلئة بتلك الٱثار، وكان من هذا القطع، بعض قطع عرش الإمبراطور الصيني، كما الحال في متاحف فرنسا التي تضم أيضا بعض القطع الأثرية المسروقة من القصر الصيفي في الصين.
ولأن هناك مثقفين يعشقون الحق، ويحترمون الأخر، قام الكاتب الفرنسي بتقديم الإعتذار للصين، لما تم من حكومته من نهب وسرقة لهويتهم وأثارهم.
ووصف فيكتور ما فعلته القوات الفرنسية في الصين، بالفعل الهمجي والغير مبرر، واستنكر المساس بثقافة وحضارة الصين، وتمنى للصين أن تستعيد كل ما تم سرقته من القصر الصيفي، وأنه يتمنى أن يحدث هذا وهو على قيد الحياة.
استرداد الأثار المنهوبة
وتمر الأيام حتى عام ٢٠١٣، إستعادت الصين بعض مقتنيات القصر الصيفي، بعد محاولات كثيرة، وبعد البحث الدؤوب عن المتاحف التي تعرض تلك القطع الأثرية.
جاء هذا التحرك لاسترداد أثار الصين المنهوبة، بعد إعلان عن بيع قطع أثرية نادرة منحوتة من مواد نادرة، مما أثار هذا غضب الصين، فقامت الصين بتكثيف الجهود لاسترداد القطع الأثرية التي تم توزيعها حول العالم.
وأصبح اليوم القصر الصيفي قبلة هامة للسياحة، وتركت الصين المباني التي تم العبث بها على حالها، حتى تحكي للعالم ما حدث من بريطانيا وفرنسا، وكيف تم الإعتداء على حضارة وثقافة وهوية الصين.
واعترافا بالعرفان، قامت الصين بتشييد تمثالا برونزيات للكاتب الفرنسي فيكتور، لدعمه الصين ولاعتذاره نيابة عن حكومته التي نهبت وسرقت حضارة عظيمة مثل حضارة الصين.
ويبقى نصف أثار الصين منهوبة لم تعد بعد لحضن القصر الصيفي، كما قال الكاتب بولا سترون، في كتاب له بعنوان كتب تحترق، شرح فيه كيف تم تدمير المكتبات العامة في الصين، وكيف تم إخراق ملايين النصوص النادرة، التي دونها جميع السلالات التي حكمت الصين في الماضي.
وهكذا يقول التاريخ كلمته الأخيرة، بأن المستعمر يخشى العلم والثقافة.
إيمان أبو الليل
كاتبة صحفية عضو اتجاد كتاب مصر