أراء وقراءات

سوريا تحت النار: حين تبتلع الأوهام السيادة وتتآكل الحدود

بقلم / مدحت سالم 

تاريخ الهزائم لا يعيد نفسه إلا عندما يُصر قوم على نسيانه وما يجري الآن في جنوب سوريا ليس مجرد قصف أو تدخل عسكري طارئ بل هو فصل جديد من إعادة صياغة المشهد الإقليمي تحت وطأة موازين قوى مختلة ومقايضات مرة لا مكان فيها للسيادة ولا لمفردات الكرامة الوطنية فالمشهد الممتد من جبل الشيخ إلى السويداء ليس معزولا عن سياق طويل من التنازلات والانهيارات والانقسامات التي شجعت العدو على التقدم خطوة بعد أخرى حتى بات يحتكم وحده لمشهد المنطقة متى يشعل الجبهات ومتى يطفئها من يحق له البقاء ومن يُفرض عليه الانكفاء بل ومتى تُمارس الدول سلطتها على أراضيها ومتى لا

**استهداف دمشق: أبعد من صراع الدروز

ما تشهده سوريا اليوم من استهداف مباشر لمقار سيادية عسكرية وأمنية في قلب العاصمة دمشق ليس مجرد رد فعل على صراع داخلي في السويداء بين قوات النظام وبعض القوى الدينية المتحالفة مع شيخ الطائفة حكمت الهجري بل هو أمر يتجاوز في أبعاده مجريات الأرض التي لم تكن سوى ذريعة لفتح النار في لحظة قرر فيها العدو أن الوقت قد حان لإنهاء كل ما تبقى من النظام الإقليمي الذي تشكل بعد الحرب على العراق ثم تعزز بمحور المقاومة الذي ضم طهران وبيروت ودمشق وغزة ذلك المحور الذي قاوم لعقود وهدد أمن العدو لأمد طويل لم يعد له اليوم من حضور فعلي سوى صور الماضي وذكريات الانتصارات

**لحظة الحقيقة: استكمال مشروع التغلغل

العدو أدرك منذ شهور أن لحظة الحقيقة قد اقتربت أن انهيار جبهة غزة وتفكيك التهديد من جنوب لبنان بالضربات المركزة وتحييد طهران من المشهد بضربات عقابية خاطفة وتطبيع مخيف مع الأنظمة الحاكمة في الخليج يفتح أمامه الطريق لاستكمال ما بدأه منذ احتلاله الجولان اليوم لم يعد العدو يكتفي بمناطق نفوذ محايدة بل يسعى لفرض أمر واقع جديد يقوم على طرد الجيوش الوطنية من أرضها أو تقييد حركتها فيها

**السويداء: سيادة منقوصة ووصاية إسرائيلية

ما حدث في السويداء جزء من هذا المشروع مشروع السيطرة بالوصاية لا بالاحتلال مشروع فرض مناطق منزوعة السيادة لا منزوعة السلاح فقط مشروع تكريس التفوق الإسرائيلي في الإقليم على مستوى الأرض والقرار والمستقبل ولعل ما يحدث الآن يعيدنا إلى لحظات الانهيار السابقة حين ظن العرب أن العدو إذا شبع من غزة وأطفأ نار حزب الله واحتوى طهران وتفاهم مع دمشق سيكف عن الزحف كان ذلك وهما وما زال من يظن ذلك واهما

** سوريا الجديدة: ثمن التنازلات

سوريا الجديدة التي حاولت ترميم صورتها بوساطة خليجية واستعادت مقعدها في جامعة العرب وصار قادتها يتحدثون ببراغماتية سياسية غير مسبوقة ويبحثون عن نافذة للعلاقات مع الغرب عبر أبو ظبي والرياض ظنت أنها قادرة على شراء صمت العدو بكمية كبيرة من التنازلات المتراكمة فبدأت بحذف صفة المحتل عن الجولان من البيانات الرسمية ومرت بلقاءات دبلوماسية في بروكسل وآذربيجان وانتهت بالتلويح بمنح برج ترامب في وسط العاصمة كمكافأة له على إعادة تدوير السلطة لكن كل ذلك لم يفلح

**عقلية المستعمر: شهية لا تشبع

لماذا لم يفلح لأن العدو لا يعرف معنى الاكتفاء لأن التنازل لا يُقابل إلا بالمزيد من الابتزاز لأنه كلما قدمت له طرف الخيط طالبك بالنسيج كاملا لأن عقلية المستعمر لا ترى في المنطقة إلا أرضا شاغرة تنتظر السيطرة ولا ترى في الأنظمة إلا وكلاء مؤقتين لمصالحه لا أكثر ولا أقل

**أهداف العدو في السويداء: حكم ذاتي تحت الحماية

من السويداء يريد العدو الآن أن يرسخ معادلة جديدة سوريا بلا سيادة مكتملة بلا جيش في أطرافها بلا سلاح ثقيل في مدنها الحساسة بلا قرار مستقل في شؤونها الأمنية يريد أن يمنح الدروز نوعا من الحكم الذاتي بزعامة حكمت الهجري تحت الحماية الإسرائيلية لا حبا فيهم بل استخداما لهم كأداة ضغط مستقبلية يريد أن يحول المحافظة إلى منطقة عازلة أشبه بالشريط الحدودي في جنوب لبنان ما بعد الاجتياح حيث لا وجود فعلي للدولة ولا قدرة للجيش على التحرك

** تواطؤ عربي: إعادة رسم الدور السوري

ما لا يُقال صراحة هو أن هذا التدخل لا يجري فقط بعين العدو بل تحت سمع ورضى الأطراف الخليجية التي يفترض أن دمشق سلمت قرارها لهم مقابل رفع العقوبات وإعادة تأهيلها عربيا وسوقيا ودوليا فها هي شركات الخليج تستثمر في الموانئ وتعيد ضخ الأموال في مشاريع البنية التحتية بينما لا تحرك ساكنا أمام القصف المتواصل على مقار السيادة السورية بل الأخطر أن هذه العواصم لم تقدم حتى اعتراضا دبلوماسيا شكليا وكأنها شريكة في إعادة رسم حدود الدور السوري في المرحلة المقبلة بما يضمن استمرار بقاء نظام مأزوم مقابل تقليص نفوذه الجغرافي إلى أبعد مدى ممكن

** تفكيك القرار العربي: مفهوم الدولة الجديد

إن ما يجري الآن في سوريا ليس سوى جولة من جولات تفكيك القرار العربي وتجريد الدولة من مفهومها السيادي واستبدال مفهوم الدولة المركزية بدولة المكونات المُدارة عن بعد من قبل قوى إقليمية ودولية تتقاطع مصالحها عند نقطة واحدة وهي أن لا يكون في الإقليم جيش قوي قادر على فرض الأمن في كل ترابه وأن لا تكون هناك أرض عربية محررة بالكامل من التبعية السياسية والاقتصادية والعسكرية

** الخطر القادم: من غزة إلى العواصم العربية

لم تتوقف شهية العدو ولن تتوقف بل تمددت إلى حيث لا يتخيل البعض اليوم هو على مشارف دمشق وغدا لا أحد يدري أي حدود ستُعاد ترسيمها بأياد أجنبية في بيروت أو في الضفة أو في عمان أو حتى في سيناء فالمعادلة الجديدة قائمة على قاعدة الصمت مقابل النجاة ومن صمت اليوم على ضياع غزة سيفقد غدا مفاتيح عاصمته ومن أدار ظهره لمذابح الجنوب سيتجرع في يوم قريب مرارة الضعف من داخل عقر داره

** ثمن الخيار: درس لم يُكتب بعد

ما جرى لم يكن ليحدث لو أن سلاح المقاومة في غزة دُعم كما يجب لو أن الطاقات العربية وظفت لدعم الصمود لا لدفع الاستسلام لو أن قرار العرب كان بيد شعوبهم لا بيد من يستجدون أمنهم من أعدائهم لو أن الدم العربي لم يُسال على مذبح التطبيع البارد الذي بدأ وديا وانتهى بخريطة جيوسياسية جديدة تجعل من كل دولة عربية مشروعا قيد التقسيم والسيطرة

سوريا اليوم تدفع ثمن خيارها وخيار من راهنوا على تهدئة العدو لا على ردعه وكل عاصمة عربية صامتة اليوم تعتقد أنها في مأمن من الخطر تُخطئ التقدير التاريخ لا يرحم من لا يقرأه والعدو لا يتوقف من حيث شُبعت شهيته بل من حيث لم يجد من يردعه أو يرد عليه

وهذا هو الدرس الأخير الذي لم يُكتب بعد ولكنه آت من رحم الخراب الأكبر

مدحت سالم 

كاتب وباحث 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى