أراء وقراءات

شعراء الأمس.. فنانون اليوم

بقلم / الدكتور محمد سعد جاد الله

سألني صاحبي: هل تحب الفنَّ والفنانين؟.    فكرت مليًا، ثم قلتُ له:

إن الجمال قيمة إنسانية لا يختلف عليها اثنان، ولا يماري فيها شخصان، وما من دين سماوي إلا وهو يقدس الجمال ويقدره، وفي الحديث “إن الله جميل يحب الجمال”.. (صحيح مسلم)، وإذا كان القرآن الكريم بُشرى للمؤمنين فالبشرى لا تكون إلا بالجميل.

ويمثل الفن صورة من صور هذا الجمال، وذلك حين يجسد القيم الحضارية، والمبادئ الأخلاقية كالصدق والشجاعة والوفاء والتعاون والصبر والرضا… إلخ دونما إسفاف أو ابتذال ـ في صورة ملموسة قد يعبر عنها من خلال بيت من الشعر أو مقطوعة من النثر أو نظم من الخطب.

فقال لي: وما علاقة الشعر والشعراء بالفن والفنانين؟

فقلتُ له: إن فناني اليوم يشبهون شعراء الأمس في كثير من الجوانب.

لقد كان الشاعر يُلقي قصيدته فتطير بها الركبان، ويحفظها الصغير والكبير، وتنتشر بين الناس بما تحمل من معانٍ وأفكار وقصص وأخبار، فيصبح الناس يتحدثون عنه وعن قصيدته وما ذكره فيها من مدح لفلان أو هجاء لعلان، أو وصف لحدث من الأحداث أو جريمة من الجرائم تماما كما تفعل المسلسلات والأفلام اليوم.

وكان الشعراء أكثر الناس ثراءً وأقل الناس عملا وإنتاجا.

وكان من الشعراء: الماجن الفاحش المجاهر بشرب الخمر كأمرئ القيس وأبي نواس، وذو الوجهين المنافق.. كالفرزدق والبحتري، وفاسد المعتقد كأبي علاء.

كما كان منهم أصحاب القيم ودعاة الفضيلة كشعراء الرسول: حسان بن ثابت وكعب بن زهير وعبد الله بن رواحة ومنهم الزاهد العابد كأبي العتاهية.

وكان الشعر وظيفة تُزري بصاحبها، وتنقص من قدره؛ ـ في نظر كثير من الناس ـ لما يُعرف عن الشعراء من نفاقهم وأنهم يقولون مالا يفعلون، يحدثون الناس عن الفضائل، ويدعونهم إلى مكارم الأخلاق، ولكنهم في خلواتهم فُسَّاق يعبثون، وفي كل واد يهيمون.

لذلك قال الشافعي :

ولولا أن الشعر بالعلماء يُزري  *  لكنتُ اليوم أشعر من لبيد

وكان الشعراء مطية كل خليفة مستبد يدفع له الأموال ليزين للناس فعاله، ويدافع عن جرائمه وسوء خصاله، ويصوره للناس في صورة الخليفة العادل والحاكم بأمر الله. وكان الشاعر من هؤلاء أحب إليه ما يقع في جيبه مما يقع على مسامعه من المديح والثناء.

وإذا كان الشعر العربي قد مر بمراحل زمنية ازدهر فيها وسما.. كالعصر العباسي ومن قبله العصر الأموي، ومراحل أخرى انحط فيها كالعصر المملوكي والفاطمي؛ فكذلك الفن بكل صوره ومظاهره قد مر بمراحل ازدهار كما مر بأحقاب من الانحطاط.

ولا أحد ينكر أن الفن اليوم يمر بأضعف المراحل وأسوئها؛ لأنه رضي أن يشارك في صنع الجريمة لا أن يعالجها، وتعمد أن يغير المفاهيم، ويبدل القيم ، وسمح لأقزام الممثلين أن يتبوؤوا أعلى المنازل الفنية، وهل يختلف أحد أن المجتمع الذي يُتًحًدًّثُ عنه في المسلسلات والأفلام المصرية لا يشبه ـ مطلقاـ المجتمع المصري الأصيل بتدينه الفطري، وحفاظه على قدر كبير من القيم والاحترام؟

وأين هذا المجتمع الذي يضج بالبلطجية، وتشيع فيه الفواحش والرذائل كزنا المحارم والخيانات الزوجية، والقتل والاعتداء، المجتمع الذي يصور البلطجي على أنه شاب شجاع قادر على أخذ حقه بيده، وأن الزوجة الزانية ضحية زوجها المقصر في حقها، وأن التلفظ بالألفاظ النابية القبيحة من الرجولة؟

إن هذا المجتمع لا يوجد إلا في ذهن كاتب السيناريو المريض.

فهز رأسه ضاحكا وقال: أراك تتفق معي بعد أن كنت تخالفني الرأي؟

فقلت له: إنني أؤمن بأن الفن رسالة سامية، وأنه قادر على تشكيل الوعي، وصناعة القيم متى ما أحسن استخدامه، وسما عن المنكرات، إن الفن سماء والابتذال أرض والنزول إلى الأرض أسهل من الصعود إلى السماء. فكم من الممثلين حفروا أسماءهم في أذهاننا ونحن صغار، ولازلنا نذكر عباراتهم، ونكاتهم، وطريقتهم المميزة في الأداء والتمثيل. تماما كما نتذكر أبياتا لأولئك الشعراء، وقد قال صلى الله عليه وسلم: “إن من الشعر لحكمًا”(الطبراني في الأوسط)
فقال: أراك قد عدتَّ مرة أخرى إلى الشعر والشعراء!
فقلت له ضاحكا: ألم أقل لك إن شعراء الأمس هم فنانو اليوم؟
الدكتور محمد سعد جاد الله
الأستاذ المساعد بكلية الآداب بالجامعة الإسلامية الأمريكية بمنيسوتا

مقالات ذات صلة