كتب. إبراهيم عوف
صدر أخيرا للكاتب الصحفي الموريتاني عبد الله ولد محمدي، عن المركز الثقافي للكتاب (بيروت – الدار البيضاء)، كتاب جديد تحت عنوان “شهود زمن .. صداقات في دروب الصحافة”.
يتضمن الكتاب، الذي قدم له الكاتب الصحفي إياد أبو شقرا، شهادات عن صداقات ربطت ولد محمدي بصحفيين من بلدان متفرقة عبر العالم. يتعلق الأمر بروبرت فيسك، وعثمان العمير، وساداموري دايجي ، وقصي صالح الدرويش، وكيم أمور، وبشير البكر، ودومينيك دِردا، وعبد الوهاب بدرخان، وسيدي الأمين، وسامي كليب، وحبيب محفوظ، ومحمد بوخزار، ومِدير بلاندوليت، ومحمد الأشهب، وعبد العزيز الدحماني، وحاتم البطيوي.
من بين ما كتب أبو شقرا في تقديم الكتاب: “في هذا الكتاب الشيّق الذي يضعه عبد الله ولد محمدي يجد القارئ عصارة تجربة متميزة، وحكايات عن 16 صحافياً عرفهم عن كثب. فيه يحكي المؤلف عن صداقات في حقل الصحافة امتدت منذ فترة التسعينيات واستمرت حتى الألفية. وفي هذا المشوار التقت دروبه مع كثيرين من روّاد الصحافة ونجومها، في الصحافة المكتوبة إلى الصحافتين التلفزيونية والإلكترونية”.
وأضاف أبو شقرا، متحدثا عن علاقته بولد محمدي: “أنا اليوم تقريباً شاهد على نصف قرن من الصحافة. إذ دخلت عبر بوابتها في بيروت عام 1973. هذه التجربة الفردية جمعتني بزملاء من مختلف الأقطار العربية وسرعان ما أصبحوا أصدقاء. من هؤلاء الأصدقاء فارس شاب أتى من “بلد المليون شاعر”… من شنقيط … من شموخ الصحراء التي تقبّل أقدامها أمواج المحيط الأطلسي. عبد الله ولد محمدي، كان ذلك الفارس الذي تعرّفت عليه في برد لندن، عندما تولّى موقع مراسل “الشرق الأوسط” في موريتانيا والغرب الأفريقي. ومنذ ذلك الحين، دفعه طموحه والتزامه وتوقد ذهنه إلى السير نحو البعيد … البعيد. ما عاد العمل الصحافي بتعريفه التقليدي قادراً – في حينه – على احتواء تلك الطاقة، فحمل ولد محمدي زاده الشهي من الكياسة الإنسانية والخبرة المهنية وشبكة الصلات الاجتماعية ليغدو مرجعاً خبيراً في شؤون غرب أفريقيا، بل أفريقيا عموماً”.
يخلص أبو شقرا إلى أن هذا “الكتاب – الوثيقة” هو “حقا رحلة ممتعة مع عالم الصحافة” و”سجلّ توثيقي وشخصي ثمين لمسيرة مهنية تستحق التوثيق… والإعجاب”.
يختصر ولد محمدي في كتابه تجربة تواصلت على مدى سنوات، نتعرف من خلال الأسماء التي قدم لعلاقته بها، على أحداث وتحولات هزت العالم، تنقلنا من حروب الشرق الأوسط إلى أكثر البؤر سخونة في إفريقيا وغيرها.
يتحدث ولد محمدي عن الصداقة التي جمعته بمن يقدم شهادات عنهم. يرسم بورتريهات لهؤلاء الذين قاسمهم دفء اللقاء، في لحظات الفرح أو مواقف التوتر والحروب التي يتعين نقل أحداثها وأهوالها، لكن مع كثير من المفارقة الهادفة والسخرية الجميلة والسرد الشيق.
في سياق حديثه عن علاقته بآخرين قاسمهم سحر الصداقة ومتاعب المهنة، لا ينسى ولد محمدي أيضا أن يتحدث عن تجربته، ومن ذلك أن يكتب في مقدمة كتابه: “توسعت معرفتي بالكثيرين من قبيلة الصحفيين، كل من موقعه. فتعلمت من مدرسة الميدان أمورا لم أكن لأعرفها لو بقيت حبيس وطني. تعلمت الاختصار من مراسلي الــ”سي إن إن” وقت الحاجة إلى ذلك، وملء الفضاء لإشغال المشاهد وشده بقصة واحدة على مدى أيام، كما لو أن الأمر يتعلق بمسلسل أميركي . وتعلمت من مراسلي الــ”بي بي سي” الإثراء والعمق في رواية القصة دون إنفاق موارد كثيرة في الميدان. كل الذين كتبت عنهم تقاطعت معهم سبلي، فعرفتهم عن قرب، وأردت أن أقدم مزيجا، يجمع بين البورتريه والملاحظات العابرة، لكنه يقرب للقارئ نموذجا للصحافة في أوج مجدها. نقلت بدايات وتجارب صغيرة أفضت إلى نجاحات كبرى، وإلى قصص تروي لحظات إنسانية عميقة الدلالة”.
يقدم ولد محمدي لقطات كتابه “للجيل الجديد من الصحفيين”، مشددا على أنها “تنتمي لجيل آيل للاندثار، ولو أن الروح التي تحركه يجبُ أن تبقى لأنها روح الصحافة، لا يمكنُ أن تغيرها سرعة التكنولوجيا ولا تدفقها العالي، فالقصة هي القصة مهما كان القالب الذي تأتي فيه”، لمن سماهم “الجيل الجديد من الصحفيين”. ثم يستدرك، مخاطبا الصحفيين الشباب، ومن يعشقون مهنة الصحافة ويحلمون بممارستها: “قطعًا ستجدون في مسيرة هذا الجيل من الصحفيين الأفذاذ نموذجا يحتذى، وقيمة مضافة ستساعدكم في الإمساك بجوهر الصحافة، برسالتها الحقيقية، وكيف تتحول من مجرد تقنيات فنية ميكانيكية إلى مهمة نبيلة ذات طابع إنساني، قادرة على سرد قصة الإنسان، إنها كما يقول روبرت فيسك (وقوف على حافة التاريخ لتقديم شهادة غير متحيزة). تلك هي الصحافة التي يمكن أن نلمسها في سيرة بعض من التقيت بهم طيلة مسيرتي المهنية، أحكي قصة بعضهم في هذا الكتاب”.
يرسم ولد محمدي بورتريهات لمن قاسمهم دفء الصداقة ومتاعب المهنة. يقول، تحت عنوان “عثمان العمير .. الرائي”: “بيني وبين عثمان العمير صداقة قديمة، تعود لأكثر من ثلث قرن. توطدت فصارت ثابتة وعميقة، قوامها قدرتنا معا على قبول الخلاف وتجاوز الاختلاف، وتلك سجية مغروسة في طبع عثمان اكتسبها من حياته الطويلة العريضة الصاخبة، في بلاد الإنجليز”.
وزاد ولد محمدي متحدثا عن العمير وتجربته في “الشرق الأوسط”، في سياق تقديمه للكتاب: “كانت “الشرق الأوسط” بلا شك مدرستي الكبرى، فيها تعلمت على عثمان العمير وغسان شربل وإياد أبي شقرا وبكر عويضة وعثمان ميرغني وغيرهم. كانت الجريدة العربية الأكثر انتشارا. وقد أتاحت لي أن أنقل أخبار أفريقيا إلى القراء العرب، فسمعوا عن انقلاب عريف صغير، اسمه يحيى جامع، على رئيسه “السير داوودا جاورا” في غامبيا الصغيرة، وعن غينيا ما بعد الحاج أحمد سيكو توري. وعن التغيير الديمقراطي في السنغال. أطلق عثمان العمير، ومن بعده عبد الرحمن الراشد، يدي لأروي قصصا إفريقية لا تنتهي. لكن دروبي انتقلت إلى آفاق أخرى”.
لا ينسى ولد محمدي أن يؤكد على العمق الإنساني للعلاقة التي جمعته بمن كتب شهادات عنهم، ضمن خيط ناظم يؤكد على أن الوفاء والاعتراف بالفضل يبقى من أسس الصداقة الطيبة. مما نقرأ في الكتاب، تحت عنوان “روبرت فيسك .. رجل لا يتكرر”: “اقتنع فيسك بأن أقصى ما يستطيع الصحفيون عمله هو الوقوف على حافة التاريخ، كما يفعل علماء البراكين الذين يصعدون إلى فوهة البركان الذي يتصاعد منه الدخان، محاولين الرؤية من فوق حافته، فتشرئب أعناقهم وهم يحدقون من فوق الحافة المنهارة، ليشاهدوا عبر الدخان والرماد ما يجري في داخله”؛ لذلك رأى أن الصحافة، أو على الأقل ما ينبغي أن تكون عليه الصحافة، هو “أن تراقب التاريخ، وأن تشهد عليه، وأن تعمد إلى تسجيله بقدر ما تستطيع من الأمانة على الرغم من المخاطر والضغوط ونواقصنا كبشر”.
حرص ولد محمدي، في تناوله للشخصيات، موضوع الشهادة – البورتريه، على أن يجعل “الإنساني” منطلقا ومحركا للكتابة. وقد كتب، تحت عنوان “حبيب محفوظ .. عبقري “موريتانيد””: “لم يكن حبيب مجرد كاتب عبقري، وإنما كان يعيش بنفس المستوى من العبقرية، وربما في تصرفاته من جنون الإبداع أكثر مما أخرج لنا في “موريتانيد”. مزج حبيب بين الثقافة المحلية التي رضع لبانها، وبين السهل الممتنع من لغة موليير، وما هو متاح من تناقضات السلطة، تصيدها ليجعلها مثار سخرية سوداء مؤلمة وضاحكة، ولكنه ضحك كالبكاء، تلك هي التسعينيات في موريتانيا صراع على كل شيء”. كما كتب ولد محمدي تحت عنوان: “عبد العزيز الدحماني .. مذاق الشاي”: “عرفت عبد العزيز الدحماني قارئا قبل كل شيء، فقد كانت مجلة “جون أفريك” إحدى المصادر المهمة في معرفة أخبار إفريقيا. ظلت المجلة، التي أسسها التونسي بشير بن يحمد، المصدر الوحيد لأخبار القارة جنوب الصحراء. اشتهر الدحماني كمتابع لصيق لأخبار موريتانيا التي ظل مهتما بها حتى بعد تقاعده في مهجره على ضفاف النيل. التقيته عدة مرات، كان آخرها في بيت الرئيس الموريتاني الأسبق المختار ولد داداه بنيس في جنوب فرنسا، إذ انتدبتني جريدة “الشرق الأوسط” لإجراء سلسلة من اللقاءات روى فيها جزءا كبيرا من مسيرته السياسية وتجربته في الحياة، وكانت وقتها بترتيب من صديقي وزميلي محمد فال ولد عمير. شعرت أن الدحماني جزء من العائلة الصغيرة للرئيس الذي شرده المنفى وزوجته الفرنسية مريم داداه. تحدثنا عن ذكرياته في موريتانيا والتَقط لنا صورا تذكارية. سألتقيه فيما بعد في مطار محمد الخامس، متوجها للقاهرة التي عاش بها إلى جنب ابنته وأخته. حتى في فترة تقاعده الطويلة نسبيا ظل الدحماني متابعا، صاحب موقف واضح مما يحدث في بلده والقارة، وعموم العالم العربي”.
يبرز ولد محمدي، في تناوله للشخصيات، موضوع الشهادة – البورتريه، جوانب خفية من علاقات الصداقة والتعاون التي جمعته بمن تحدث عنهم في “شهود زمن”. يقول، تحت عنوان: “ساداموري .. ياباني في “المحظرة””: “قبل الذهاب إلى المحظرة وبدء الحديث مع الطلاب، جلسنا في بيتي المتواضع نأكل مما تيسر من الضيافة البدوية: اللحم والأرز. اكتشفت أن الياباني يتجنب قطع اللحم ويأكل القليل من الأرز، ربما انسجاما مع ثقافته البوذية. بعد ثلاثة كؤوس من الشاي الأخضر، قال لي ساداموري إن العيش، هنا، يلائم الرهبان البوذيين. ضحكنا من فكرة أن يعيش رهبان بوذيون في أكثر الأماكن تشبثا بالثقافة الإسلامية”.
تجدر الاشارة الى انه سبق لولد محمدي أن أصدر مؤلفات متنوعة المواضيع،تتراوح بين الكتابة الإبداعية والتوثيق لتجربة غنية على مستوى مهنة المتاعب، بينها “تومبكتو وأخواتها .. أطلال مدن الملح ومخطوطات” (2015)، ورواية “طيور النبع” (2017)، و”يوميات صحفي بإفريقيا .. وجوه وانقلابات وحروب” (2017)، و”المغرب وأفريقيا: رؤية ملك” (2019). كما كانت لولد محمدي مشاركات في كتب جماعية، على غرار “الرسائل المغربية” (2016) و”الرسائل الخليجية” (2021)، فضلا عن مساهمات في حقل الترجمة، على علاقة بتجربته الإعلامية التي حاور وجاور خلالها عددا من قادة الدول، ومن ذلك ترجمته لمذكرات الرئيس السنغالي ماكي سال “السنغال في القلب”، من الفرنسية إلى العربية (2021).