شهيد الكرامة 1967 فتحي عبدالنبي عبداللطيف البصيري
بقلم / الدكتور محمد النجار
عندما نتحدث عن إنتصارات حرب إكتوبر ، لابد أن نتذكر عشرات آلاف الشهداء الذين استشهدوا على أرض سيناء دفاعا عن شرف الأمة عام 1967م”. ومن بينهم كان الشهيد فتحي عبدالنبي عبداللطيف البصيري من بلدة كفر نصار بمنطقة الهرم.
ولادة الشهيد فتحي ودراسته
وُلد الشهيد فتحي عبدالنبي عبداللطيف البصيري عام 1944 في قريته حينئذ ((كفر نصار بالهرم )) ، وتخرج في الجامعة عام 1965 ، وتم تعيينه في وزارة الزراعة حيث كانت الدولة حينئذ تقوم بتعيين الخريجين في الوظائف الحكومية فور تخرجهم لتستفيد منهم في برامج التنمية .
الشهيد فتحي كان يقضي خدمته في غزة
ما إن مرت شهور بعد تخرجه حتى استدعته القوات المسلحة لآداء الخدمة العسكرية الإجبارية عام 1966م. وكانت خدمته في ((منطقة غزة))التي كانت تتبع مصر إدارياً ضمن أرض سيناء الحبيبة .
الحرب العربية الاسرائيلية عام 1967
بدأت الحرب في 5يونيو1967م ، ولم تستغرق سوى ستة أيام ، واحتلت اسرائيل خلالها صحراء سيناء وغزة والجولان وسقط بيت المقدس ومسرى النبي محمد صلى الله عليه وسلم ومهد المسيح عليه السلام في أيدي اليهود ، واحتفل وزير الدفاع الاسرائيلي وجنوده بسقوط القدس في أيديهم .
انسحاب الجيوش العربية من الجولان والقدس و سيناء
إنسحبت القوات القوات العربية للأسف من أرضها التي كانت تسيطر عليها والتي كان من المفترض أن تنطلق منها الى داخل اسرائيل لتحرير فلسطين ودحر القوات السرائيلية ، وعاد بعض الجنود إلى أهاليهم يروون قصص الحرب ومآسيها ، إلا أن الجندي فتحي عبدالنبي عبداللطيف البصيري لازال غائبا ، وظل والده ووالدته وإخوته ينتظرون عودته.
وكنا جيراناً لهم “البيت لصيق بالبيت ” ، فكان والدي الشيخ أحمد النجار يرحمه الله يجلس مع والد الشهيد الاستاذ عبدالنبي عبداللطيف -الذي كنا نناديه “عم عبده”- أمام البيت يومياً في انتظار أخبار عن وصول الجندي فتحي ، وكنا أطفالاً نجلس معهم لكن تأثرنا بهم وبأحزانهم وبظروف الحرب والطائرات الإسرائيلية التي كانت تكسر حاجز الصوت يوميا في سماء مصر المكشوفة بعد تدمير اسرائيل كافة الطائرات المصرية وهي رابضة في مطاراتها دون أن تقلع طلعة واحدة .
انقطاع الأخبار عن الجندي فتحي عبدالنبي
وبدأ قلق عم عبده يزداد رغم هدوءه المعتاد ومحاولته السيطرة على إنفعالات الحزن التي كانت تخيم على قلبه، وكنا نحاول تصبيره وإعطاءه الأمل بأن جنوداً كثيرين لازالوا في طريقهم تائهين في صحراء سيناء ، وأن السلامة ترافقهم جميعا بإذن الله .
مرارةُ الإنتظار أكثر من أربع سنوات
ذهب عم عبده والد الشهيد فتحي الى كل المستشفيات التي فيها جرحى الحرب ، وراجع القوات المسلحة بحثاً عن مصير إبنه الجندي الذي كان يؤدي خدمته في سيناء لعله يكون ضمن الأسرى لدى إسرائيل ، إلا أنه لم يعثر على خبر يشفي صدره ويطمأنه على إبنه الغائب إلا أن الأمل لازال عنده لعل خبراً يأتيه و يطمأن قلبه .
إنها المرارة التي يتجرعها الأب والأم وكل الأسرة حينما يغادر إبنهم البيت ويسافر الى كتيبته العسكرية دفاعا عن شرف الوطن دون أن يعلموا إنها المغادرة الأخيرة دون توديعهم له ، ربما يكون الوداع الأخير.
مرت سنة النكسة 1967 ، ومرت أربع سنوات بعدها وعم عبده و أسرته ينتظرون عودة فتحي الذي كان أملهم في الحياة بعد تخرجه من الجامعة ليكون سنداً لوالده وأسرته.
أكثر من أربع سنوات ولوعة الإنتظار بين الأمل والألم ، ويتقلبون بين الخوف والرجاء ، إلا أن الرؤوس من كثرة الهم والتفكير قد شابت ، والقلوب قد مرضت ، والعيون من الدموع قد جفت .
البوسطجي يطرق الباب
وفي يوم 15/12/1971م أي بعد أكثر من أربع سنوات من الإنتظار المر ، وفي يوم أشرقت فيه الشمس بشعاع حزين ، طرق البوسطجي “رجل البريد” الباب ومعه رسالة واردة من السجلات العسكرية تم تسليمها لعم عبده .
استشهاد الجندي فتحي عبدالنبي عبداللطيف
ما أن فتح عم عبده رسالة السجلات العسكرية وإلا ودارت به الدنيا ..إنه الخبر الذي لم يكن يأمل أن يأتيه ..إنها اللحظة التي كان يحاول استبعادها من قلبه وعقله .
إنه النعي الوارد من السجلات العسكرية عن استشهاد ابنه فتحي ، إنها اللحظة التي كان ينتظر فيها وصول خبر سار عن ابنه ، إلا أن الخطاب كان جافاً وصادماً للأسرة كلها ، وخيم الحزن على كل ركن في البيت.
وتخيل معي أيها القارئ لو كنت أنت مكان عم عبده في هذه اللحظة الصادمة عندما تفتح ظرف مغلق يصدمك فجأة بوفاة أعز الناس عندك !!
إنها اللحظات التي ربما يتمنى فيها الإنسان وفاته قبل سماع مثل هذا الخبر ، انها اللحظة التي ربما يتوقف فيها القلب وتنتهي فيها حياة الإنسان ، إنها اللحظة التي يضحي فيها الانسان بكل مايملك ولا يتمنى أن يأتيه مثل هذا الخبر .
واستسلم عم عبده لقضاء الله وكان لسان حاله يقول :
إنا لله وإنا إليه راجعون..
يارب .. يامن تجبر قلوب الحزانى ..أسألك أن تجبر قلبي لفراق إبني الشهيد..
يارب ليس سواكَ يدري بحالي ويسمع شكواي فارحم قلبي وقلب والدته وقلب إخوته.
يارب كان فتحي أملنا في الحياة الدنيا لكنك اخترته شهيداً في رحابك ..اللهم اقبل شهادته في سبيلك واجعله وكل الشهداء عندك في الفردوس الأعلى أحياء يُرزقون.
يرحمك الله ياعم عبده ..واسترح في قبرك فقد اختارك الله لتكون والداً للشهيد ، وأبشري ياخالتي أم فتحي بإختيار الله لكِ لتكونِي أماً للشهيد. وحقا يا أسرة الشهيد فتحي عبدالنبي عبداللطيف البصيري تستحقون هذا التكريم الإلهي باختياركم “أسرة الشهيد”.
شارع الشهيد فتحي عبدالنبي عبداللطيف البصيري
وأطلقت محافظة الجيزة اسم الشهيد فتحي عبدالنبي عبداللطيف البصيري على الشارع الذي وُلد فيه الشهيد وعاش مع أهل بلده فيه حتى يوم رحيله الى سيناء مدافعا عن كرامة وشرف الأمة .
أخيراً .. اللهم تقبل الشهيد فتحي عبدالنبي عبداللطيف البصيري شهيداً في سبيلك وكل من اخترتهم يارب للشهادة ، وارزقهم الفردوس الأعلى من الجنة .. وارحم عم عبده والد الشهيد ، وارحم خالتي أم فتحي والدة الشهيد وبارك في إخوة الشهيد المحترمين الإخوة الأعزاء الحاج سيد والاستاذ لطفي والاستاذ محمود والاستاذ أشرف ، وارزقهم شفاعة الشهيد فتحي. وارحم كل الشهداء الأبرار الذين يدافعون عن شرف وكرامة الدين والوطن.
لن تضيع دماء الشهداء الأطهار
وفي الختام نؤمن بالله ونثق في وعده بالنصر ، ولن تضيع دماء الشهداء التي روت أرض سيناء وأرض الإسراء والمعراج هباء ، وحتما سيأتي اليوم الذي سُتحرر فيه الأيادي المؤمنه الطاهرة المسجد الأقصى ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومهد المسيح عليه السلام من أيدي الصهاينة المجرمين ، كما حررت سيناء وقهرت الجيش الصهيوني الذي أشاع الصهاينة عنه إنه لا يُقهر ، فقهرته صيحة الله أكبر من الجنود الصائمين في شهر رمضان وحطمت خط بارليف الأسطوري واقتحمت قناة السويس ، وحطمت أكذوبة التفوق الصهيوني على العرب والمسلمين ، وأدعو الله أن نرى ذلك قريبا بإذن الله .
د.محمد النجار
السبت 15ربيع أول1444هـ
الموافق 15 أكتوبر 2022