أراء وقراءات

عقول في ساحة اللعب: كيف تعيد الألعاب الإلكترونية تشكيل هوية المراهقين؟

بقلم / الدكتورة هناء خليفة

في زمنٍ صار فيه العالم شاشة، لم تعد الألعاب الإلكترونية مجرد وسيلة للتسلية، بل تحوّلت إلى مساحة جديدة لتكوين الذات.

هناك، في العوالم الافتراضية، يبني المراهق شخصيته، يختار مظهره، أصدقاءه، وأحيانًا حتى مصيره.

لكن السؤال الذي لم ننتبه له بعد:

هل يصنع المراهق لعبته… أم أن اللعبة هي التي تُعيد تشكيله دون أن يشعر؟

*من اللعب إلى التشكيل النفسي

علم النفس التنموي يرى أن مرحلة المراهقة هي أخطر مراحل بناء الهوية، حيث يبحث الفرد عن ذاته ومعناه في العالم.

في الماضي، كان هذا البحث يحدث في الأسرة، المدرسة، والشارع.

أما اليوم، فقد انتقلت “ساحة التجريب” إلى داخل الألعاب الإلكترونية — حيث يمكن أن يكون اللاعب بطلًا خارقًا، أو قائد جيش، أو حتى شخصية خيالية خارجة عن قوانين الواقع.

 *الهوية الجماعية الجديدة

لم تعد الهوية تُبنى فقط على الانتماء للأسرة أو المجتمع، بل أصبح الانتماء الرقمي — إلى فريق أو مجموعة لعب أو مجتمع افتراضي — عنصرًا مركزيًا في هوية الجيل الجديد.

هؤلاء لا يتعارفون بالأسماء، بل بالألقاب والرموز والأفاتار.

يتشاركون اللغة، والسلوك، وردود الأفعال ذاتها.

تقول الدراسات إن الألعاب الجماعية تُنشئ نوعًا من الهوية الجمعية العابرة للثقافات، لكنها في المقابل قد تُضعف الارتباط بالهوية المحلية والوطنية.

فاللاعب الذي يقضي ساعات يوميًا في عالمٍ بلا حدود… قد يجد صعوبة لاحقًا في التفاعل مع الواقع المحدود.

*التقمص والتأثير الوجداني

الألعاب ليست فقط صورًا وحركات، بل منظومة متكاملة من التحفيز النفسي.

كل فوز يُفرز جرعة من “الدوبامين”، هرمون السعادة،

وكل خسارة تُثير التحدي وتدفع للمحاولة مجددًا — وهكذا تدور دائرة الإدمان النفسي الهادئ.

والأخطر أن المراهق يبدأ في تقمص الصفات والسلوكيات التي يعيشها داخل اللعبة:

الشجاعة الزائدة، التنافس العدواني، أو التبلد أمام مشاهد العنف.

كل ذلك يترك بصماته في الشخصية الواقعية، حتى وإن لم يصرّح بها المراهق نفسه.

*عالم يربّي الوعي دون معلّم

الألعاب اليوم ليست عشوائية؛ بل تُصمم وفق علوم دقيقة في السلوك، الإدراك، والتفاعل العصبي.

تُدرّب المراهق على اتخاذ القرار بسرعة، على التعاون الجماعي، لكنها أحيانًا تغرس قيمًا جديدة دون وعي.

قيمة النجاح بأي ثمن، أو المتعة الفورية بدل الصبر، أو فكرة أن العالم ينقسم إلى فائز وخاسر فقط.

تلك الرسائل الخفية هي التي تعيد برمجة وعي الجيل الجديد — جيلٍ يتعلم من الشاشة أكثر مما يتعلم من المدرسة.

*بين التهديد والفرصة

ورغم كل ذلك، لا يمكن أن نعتبر الألعاب خطرًا مطلقًا؛ فهي تحمل أيضًا إمكانيات هائلة للتعلم، وتنمية المهارات، وبناء الثقة بالنفس.

لكن الفارق بين البناء والهدم هو الوعي:

حين يدرك المراهق والأهل معًا أن ما يبدو “لعبًا” قد يكون “تشكيلًا” عميقًا للعقل،

وحين تتحول الشاشة من أداة للهروب… إلى وسيلة للفهم والتطور.

*العب بوعي، لا بغياب

في ساحة اللعب الحديثة، لا يفوز الأقوى، بل الأوعى.

من يعي ما وراء اللعبة، يمتلك زمام نفسه حتى في عالمٍ تحكمه الخوارزميات.

فالوعي الرقمي ليس ترفًا، بل درع الحماية الحقيقي لهويتنا في زمنٍ تتقاطع فيه الحدود بين الإنسان والآلة.

دكتورة هناء خليفة 

دكتوراة في الإعلام من كليه الاداب جامعه المنصورة
مهتمة بقضايا الفكر والوعي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى