عِمَارَة الفُقَرَاء: تأملات بقلم د. أمين رمضان


شدني احتفاء جوجل بمهندس معماري مصري اسمه “حسن فتحي”، ولد عام ١٩٠٠ ومات عام ١٩٨٩م، سألت نفسي: لماذا تحتفي به جوجل، ولا تحتفي به بلده مصر، فقررت جمع معلومات عنه.
كنت أظن أنني أثناء بحثي سأعثر على معلومات وأرقام عن العمارة، وإنجازات لمباني حديثة أقامها تناطح جمال المباني في الغرب، في الألوان والمواد والأشكال، لكن هالني ما وجدته، وجدت مهندس عبقري إنسان شاعر، يجعل من المبنى كائن حي، كل حجر وزاوية فيه لها دور ومعنى، يستخدم فقط المواد المحلية المتاحة في البيئة ليبني بها عمارته، فيستخدم الطين أو الحجر، كأنه ينزعها من أعماق تاريخ خاصمناه، لحاضر أهملناه، ومستقبل فقدناه، غرست أمه فيه منذ الصغر الإحساس بجنة الريف التي افتقدتها في المدينة، فحولت القلوب والأذواق إلى مبانٍ من الحديد والخرسانة، اختفت وراءها المشاعر الإنسانية النبيلة ، فقرر أن يكرس حياته للعمارة التي تستخدم إمكانيات البيئة، لتعيد الإنسان إلى عالمه الذي يعشقه، ويتنفس هواؤه، كما فعل قدماء المصريين، وعاشت مبانيهم آلاف السنين، وما زالت شامخة، تنطق بلسانهم حضارتهم وحياتهم.
وهالني أكثر، اهتمامه باستخدام نعم الله الأخرى التي أحاطت بالإنسان من كل جانب، فكانت له نظريته في العمارة، التي لا تستخدم أي وسائل تكنولوجيا حديثة في ذلك الوقت، كالمكيفات غيرها، بل صمم عمارته ليكون تبريد وتدفئة المنزل طبيعياً، باستخدام آخر ما توصلت له العلوم في العصر، وفوق كل ذلك قدم عمارة عبقرية رخيصة يمكن أن تحل مشاكل الفقراء، ولذلك عرفت نظريته في العمارة باسم “عمارة الفقراء”

مزج المعماري العبقري “حسن فتحي” البيئة مع الإنسان، في سيمفونية نادرة، في معانيها، وكان من أجل معانيها أنها حلم للفقراء في هجير الحياة، لكن هيهات لهذا الحلم أن يرى النور، ذبحته سكين السياسة، وقتله رصاص الجشع، ليزداد الفقراء فقراً، والأغنياء أموالاً، والشركات ثراءًا، وإلا كيف يمكن لشركات البناء الحديثة أن تمتص دماء الناس، وهي تحتكر الإنتاج، ويجني المقاولون من وراءها الملايين من بيع مساكن هَمَّهَا الأول المال وليس الإنسان، بل أضرت بالإنسان، وهي العمارة التي كان ضدها المعماري العبقري “حسن فتحي”.
العباقرة والموهوبون هدية من الله للمجتمعات، أو قل للبشرية كلها، بهم ينتقل العالم إلى آفاق جديدة لم يعرفها من قبل، فمنهم من يحتفي بهم مجتمعه ويوفر لهم كل ما يساعدهم على تحويل عبقريتهم إلى حلول لمشاكل المجتمع، ومنهم من يُبْتَلى بمجتمعات تحاربهم حتى لا يسطع نجمهم، ولا تصبح عبقريتهم عاملاً مهما لحل مشاكل الناس، وخصوصاً الفقراء، إما بسبب ديكتاتوريات سياسية، أو مصالح اقتصادية لفئة قليلة من أفراد المجتمع، أعماها الجشع عن الفقراء، وانفتحت شراهتهم لتلتهم ثروات الوطن، وتستطيع بكل سهولة أن تعرف المجتمع المريض أو المتخلف من الطريقة التي يعامل بها الموهوبين والعباقرة من أبنائه.
فعندما يترك العلماء والعباقرة أوطانهم، فاعلم أنهم لم يجدوا الحرية والدعم الذي يحول أحلامهم إلى مشاريع في واقع الناس، فيهربون إلى الغرب الذي زرع الاستبداد ورعاه في الكثير من دول العالم، لأن العباقرة لا يثمرون في تربته، ولا يتنفسون هواءه، فيهاجرون إلى الغرب والشرق، لتتلقاهم دوله المختلفة وتوفر لهم الحرية والبيئة التي يبدعون فيها، فتظهر مواهبهم ويشاركون في صناعة تقدمهم العلمي، وأسلحتهم التي يغتالون بها أحلام الأوطان التي جاءوا منها، والعجيب أن هذا المرض أصيل في المجتمعات “المسلمة”، فهل تعيش المجتمعات في وهم صنعته لهم أهواؤهم أنها مجتمعات إسلامية ، بينما هم بعيدون كل البعد عن روح “الإسلام” … ؟!.

aminghaleb@gmail.com