فرنسا من خلف القناع
مع أول زياراتي لباريس منذ ثماني سنوات، ذهبت وأنا أختزن في ذاكرتي كتابات رواد (الثقافة والتنوير) حول باريس بلد الجن والملائكة ومدينة الأنوار والأناقة والجمال، ومن أول يوم صدمتني ظاهرة انتشار التبول في الشوارع، وحين ذكرت ذلك لأصدقائي اتهموني بالتحيز ضد مدينة الأنوار، ومنذ عامين بدأت صحف العالم تتحدث عن تلك الظاهرة ومعالجات بلدية باريس التي فشلت حتى الآن في معالجتها.!
وفي زيارتي لقصر فرساي لفت نظري خلو الأجنحة الملكية من الحمامات، فسألت المرشد السياحي عن السبب، وأضفت له سؤالا آخر عن ما اشتهر به “لويس الرابع عشر” من أنه لم يستحم أبداً؟
قال لي : في زمن لويس كان الناس – الغني منهم والفقير – لا يستحمون إما لأسباب دينية، أو لاعتقاد بأن الاستحمام مضر بالجسم لأنه يفتح مسام الجلد ويسمح بنفاذ الجراثيم.!
وأيضاً لم يكن هناك مراحيض داخل البيوت بما فيها قصر الملك، وكان الناس يقضون حاجاتهم في الخلاء أو في أوعية يتم إفراغ ما فيها في الطرقات.!
وقبيل مغادرتي باريس قابلت جماعة من المقيمين العرب وحين عرفوا أن وجهتي في اليوم التالي هو (حديقة التأقلم) الكائنة بغرب باريس، قالوا لي : بصفتك مهتم بالشأن الثقافي والتاريخي لمعالم فرنسا سنروي لك قصة حديقة التأقلم التي لن تعرفها من وسائل الدعاية السياحية :
تم افتتاح الحديقة عام 1860، وكانت مخصصة لعرض الحيوانات النادرة التي تستجلبها الإدارة الفرنسية من مستعمراتها حول العالم، وأثناء الطاعون الذي اجتاح فرنسا بين عامي 1870-1871، شح الطعام وأكل الفرنسيون الحيوانات النادرة في حديقة التأقلم، وبعد انتهاء الطاعون تم تحويل الحديقة من حديقة تستجلب الزوار لرؤية النوادر من الحيوانات إلى حديقة تستجلب الزوار لرؤية الغريب من الآدميين .!
قامت فرنسا باستجلاب نماذج بشرية من الدول التي تحتلها في أفريقيا وآسيا، ووضعوهم في نفس أقفاص الحيوانات، ودربوهم على أداء مشاهد تمثيلية ورقصات تقليدية، وألبسوهم ملابس تقليدية تكشف أكثر مما تستر، وكان أول المستجلبين من أهل النوبة، وآخر عرض تقدمه حديقة التأقلم كان عام 1931، وكان العرض لأعضاء من قبيلة مُستَجلَبة من أفريقيا ليقوموا بتمثيل دور آكلي لحوم البشر .!
هذه العروض التي تم من أجلها استعباد واستغلال البشر لم يكن هدف الإدارة الاستعمارية الفرنسية من ورائها تسلية الجمهور والربح الاقتصادي فقط؛ بل كان هدفها الأسمى هو : تركيز الصورة الذهنية لتخلف تلك الشعوب المحتلة، والدور الإنساني العظيم الذي تقوم به فرنسا لتحضير وتهذيب تلك الشعوب المتوحشة والمتخلفة من عينة آكلي لحوم البشر.!
للأسف هذه الصورة المركزة المكثفة عن غير الفرنسي المتخلف ودور فرنسا الرسالي العظيم في تثقيف الشعوب ما زالت هي الصورة التي تعيش عليها فرنسا.
أنا لا أقول (تعيش عليها فرنسا) على سبيل المجاز؛ بل هي حقيقة يعلمها الفرنسيون؛ فلولا الثروات التي تنهبها من أفريقيا وحدها، لما استطاعت فرنسا العيش.
فرنسا تستحوذ على يورانيوم دولة النيجر، والذي يمد فرنسا بـ35% من احتياجاتها من الطاقة النووية والتي تساهم بإنتاج 75% من الطاقة الكهربائية الفرنسية.
وفي سبيل الاستحواذ تصنع فرنسا الطبقة الحاكمة المستحوذة على ما ترميه فرنسا لها من فتات، وتدبر الانقلابات العسكرية على من يتمرد على نهبها، ولمواجهة اختراق الصين للمنافسة على كعكة فرنسا، استدعت فرنسا خبرتها في صنع الإرهاب وبدأت بالانتشار العسكري في النيجر ومالي وتشاد بدعوى مكافحة الإرهاب، لتضع يدها مباشرة على الغنيمة.
دولة “النيجر” بالنسبة لفرنسا دورها هو نفس دور شعوب المستعمرات الفرنسية في حديقة التأقلم، فالشعب النيجري هو أفقر شعوب أفريقيا وأكثرها بؤسا، برغم أن دولته تأتي في المرتبة الثانية عالميا في إنتاج اليورانيوم .!
وسأطيل قليلا -على غير العادة- لأكشِف عن آخر مشهد لوجه فرنسا من خلف القناع، هو مشهد كيفية صناعة ببغاوات فرنسا في عالمنا العربي والأفريقي، الذين يزينون صورتها ثقافياً، ويوطئون الأرض لاستمرارها في النهب والسلب.
وسأكشفه من شهادة شاهد من أهلها هو الفيلسوف الفرنسي “جان بول سارتر” مقتَطَفاً مما كتبه في مقدمة كتاب المناضل الفرنسي “فرانس فانون” (معذبو الأرض) :
- كنا نستجلب بعض أبناء المستعمرات ونعلمهم لغتنا وعاداتنا وندبر لبعضهم زيجات أوروبية، ثم نرسلهم إلى بلادهم فنسمع من خلالهم رجع أصواتنا، فهؤلاء المثقفون الذين صنعناهم لا يملكون سوى ما نلقيه في أفواههم
- والروائي إبراهيم أصلان يستكمل المشهد الذي رسمه سارتر فيقول بعفوية في كتابه (خلوة الغلبان)، أنه تمت دعوته عام 1994 مع مجموعة من (المثقفين) المصريين، ثم يقول : جلسنا وأمامنا مائدة ازدحمت بالمأكولات الخفيفة الملونة وزجاجات النبيذ الداكنة ووراءها مجموعة من الفتيات الجميلات … وكان يجاورني رجل يملأ لي الكوب كلما فرغ وعرَّفني بأنه يهودي.
- همست في أذن جاري بأن هذا الرجل يهودي فأجاب : وإيه يعني؟ كل الناس اللي معانا هنا يهود.
وأترك لحضراتكم ملأ الفراغات بين سطور وصف “أصلان” لمدخل فرنسا لصناعة الببغاوات.
أَطَلتُ عليكم .. وأكتفي بما وضعته بين يديكم من ملامح لوجه فرنسا من خلف القناع
بقلم / المهندس محمود صقر
اول يوليو 2020
من اختيارات الدكتور عبد الخالق حموده