“في البدء …..”
بقلم: أسامة مدني
ونحن نعيش آمالنا وتطلعاتنا، إحباطاتنا وانتكاساتنا، ونحن نلهث خلف طُموح هنا وجُموح هناك، منتصرين حيناً، منكسرين غالباً، ونحن نتشبث بالناب والمخلاب في غنائم الدنيا الفانية، ألم نتريث برهةً للنظر في ماهية الوجود: بدايته، نهايته؟ ألم نتأمل اتساع الكون: لانهائيته، حتميته؟ ألم نعتبر يوماً أننا كجنس بشري ومضة عابرة في تاريخ هذا الكون المديد؟ ونسكن كوكباً ليس سوى ذرةً سابحة في مجرة عدد نجومها يفوق حبات رمل صحاري عالمنا الفسيح؟ ألم ندرك بعد أن تاريخنا البشري منذ بدايته يقترب من العدم قياساً بتاريخ هذه الأرض الحنون وهى تحوم داخل مجموعتها الشمسية السابحة على أطراف مجرتها التبانية التائهة داخل كون لا نهائي عرضه مليارات السنوات الضوئية؟
كيف ومتى ومن أين تشكل هذا الأخطبوط الكوني الذي ينعدم فيه المكان والزمان بمقاييسنا البشرية المحدودة؟، ويتضاءل وجودنا المؤقت كجنس بشري داخل محيطه اللا محدود؟ تتعدد النظريات العلمية وتتقاطع ولكن الثابت اليقين أن عمر هذا الكون 13.7 مليار سنة وقد يستمر مثلها أو أكثر. وترجح نظرية “الانفجار العظيم”، وهي الأكثر شيوعاً بين علماء فيزياء الكون، أنه بدأ نقطة مجهولة متناهية الكثافة والصغر أحدثت انفجاراً هائلاً، مولداً طاقة لا محدودة منها تشكلت المادة بعد تبريد تدريجي على مدار مليارات السنين، فكان مولد الأجرام السماوية مثل النجوم والكواكب والمذنبات والنيازك والشهب، وهو كون سمته التمدد بشكل مطرد، والتسارع بصورة متصلة.
ولكن هناك نظريات أخرى لنشأة هذا الكون منها الغريب العجيب، ومنها الرومانسي اللا معقول. فمن قائل بنظرية الكون الساكن اللا محدود، الثابت اللا نهائي الذي لا يتسع ولا ينكمش ولا يتحرك، لا بداية له ولا نهاية؛ ومن قائل إنه يتمدد ويتضخم مبتعداً عن مركز الانفجار الأول حتى لا ينكفئ على ذاته بفعل كثافة وجاذبية كتلته الأولى فيتقلص وينهار ويفنى؛ وهناك من يُرجح أنه ليس وحيداً فريداً، ولكنه كون واحد ضمن سلسلة من الأكوان المتعددة، فهو شبيه ببذرة متناهية الكثافة والصغر نبتت داخل ثقب أسود، ذلك المارد السحيق الناتج عن أفول نجم فضائي انهار على نفسه بفعل الجاذبية الهائلة مكوناً ثقباً أسود يبتلع كالمفرمة كل شيء، حتى الضوء لا يفلت منه. تنفجر تلك النقطة المتناهية الصغر والكثافة داخل هذا الثقب الأسود السحيق محدثة شرارة بداية كون ضمن أكوان أخرى لنقاط أو بذورٍ أخرى داخل هذه الثقوب السوداء العملاقة. وهنا يكون الثقب الأسود بمثابة باب بين كونين، أحدهما بمثابة “الكون الأم” والآخر “الكون الإبن”، وهي أمور من هول حجمها في المكان وامتدادها عبر الزمان تستعصي على الإدراك البشري المحدود بقوانينه الفيزيائية المعروفة.
ثم هناك من يفترض نظرية الزمكان فائق السيولة حيث يتدفق المكان والزمان وهما متداخلين في حالة تحد لقوى الجاذبية والاحتكاك على شكل دوّامات حلزونية فتصبح هذه الدوّامات بذورٍ لهياكل مجرّات وأكوان جديدة. ويرى آخر أن “الانفجار العظيم” قد نتج عن اصطدام كوننا بكون آخر ثم تتكرر تلك الاصطدامات بين الأكوان المختلفة لتنتج انفجارات عملاقة بين الحين والآخر فتتشكل أكوان أخرى مختلفة الأشكال والأحجام. وأخيراً، وصل الخيال بالبعض لافتراض أننا نعيش داخل محاكاة حاسوبية افتراضية أشبه بأفلام الخيال العلمي حيث الأكوان مجرد محاكاة ليس أكثر، بل والافتراض أننا داخل إحداها، وهنا تصبح المادة والطاقة والثقوب السوداء عبارة عن برامج محاكاة داخل هذه المصفوفة الوهمية.
ولكن يُجمع علماء الفيزياء الكونية أنه مهما تنوعت نظريات نشأة الكون إلا أنها تتفق جميعاً على حقيقة أنه يميل إلى اللا نظام والعشوائية ويحتاج تدخلاً متكرراً لكبح جماح هذه العشوائية وإعادة النظام مرة تلو الأخرى، ومن هذا التدخل المتعمد تشكلت الكواكب ومداراتها المنتظمة حول النجوم، ونشأة الإنسان وحضاراته، إنجازاته وتطلعاته.
تُرى، لماذا يُعاند بعض هؤلاء العلماء الأفذاذ في تقبل حقيقة وجود خالق لهذه السيمفونية الكونية المعجزة؟ لماذا يُنظّرون أن الكون يمتلك خصائص نشأته، تطوره، فأُفوله الحتمي، ثم يختلفون حول تفسير طبيعة مصدر تلك الخصائص؟ لماذا يؤكدون أن نهاية الكون في الزمن السحيق سيكون لا نظاماً وعشوائية ستؤديان إلى فناء وعدم، ثم يعودون ليؤكدوا أن من تلك الحالة العدمية سينشأ كون بل أكوان أخرى، حياة بل حيوات أخرى؟ لماذا يتشبثون بالعلم إلهاً وهم غافلون، لاهون أن اليقين بين أيديهم، ولكنهم يكابرون.
فكلمات الكتاب المقدس الأولى تبدأ بالقول: “في البدء خلق الله السموات والأرض (سفر التكوين 1:1)، أي في الأزل السحيق الذي لا تستطيع عقولنا البشرية المحدودة أن تحصر وجوده ببدء معين في لحظة معينة. وبالتالي، فإن هذا البدء السحيق، والذي خلق الله فيه السموات والأرض، لا نستطيع إدراكه ولا التعبير عنه بأرقام محددة حتى ولو كانت بمليارات السنين. فالخالق هنا يُقيم الشمس والقمر والنجوم “أبد الدهر” (مزمور ١٤٨: ٣ – ٦)، وحتى يوم الحساب.
وفي القرآن الكريم وردت المفردات الفلكية وظواهرها في عشرات بل مئات الآيات: فذُكرت السماء 310 مرة، والشمس 33 مرة والقمر 27 مرة والنجم 13 مرة والأرض 339 مرة؛ هذا بالإضافة إلى تسمية بعض السور بمفردات كونية مثل القمر والنجم والشمس والمعارج والتكوير والانفطار والبروج والانشقاق تعبيراً عن علم الخالق بمكنون وتطور تلك الظواهر الكونية. ألم يؤكد سبحانه “أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا” (الأنبياء 30) في إشارة لنظرية “الانفجار العظيم”، وأن تمدد الكون اللا نهائي قد ذُكر في قوله تعالى: “وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (الذاريات 47)، كما أن نشأة أكوان جديدة بفعل التصادم بأكوان قديمة قد عبر عنها سبحانه في قوله: “يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (الأنبياء 104)؟ أليس هذا الكون الفسيح بما يحوي من مليارات المجرات والتي تحتضن كل منها مليارات النجوم حيث يدور في فلكها مليارات الكواكب حَرياً بِنَا أن نُسبّح بحمد خالق وسعت قدرته كل شيء، ووسع علمه كل زمان ومكان عندما “فِي الْبَدْءِ كَانَ الْكَلِمَةُ” (يوحنا 1: 1)؟ أليس هو سبحانه حقاً “إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ” (يس 82)؟
فهل نحاول جاهدين مخلصين أن نمسك بلحظة تنوير نستشعر فيها هذا الوجود الإلهي اللا متناهي، هذا الكون المديد وهو يتجسد أمامنا ولو في حبة رمل واهية لعلنا ندرك ونتعظ؟ فعلها الشاعر الإنجليزي وليام بليك من قبل مستلهماً وجودنا الخالد الفاني، لعلنا نفعلها من بعد:
“أن ترى عالماً في حبة رمل،
أو فردوساً في زهرة برية، أن تمسك اللا نهائية في راحة يدك، أو الخلود في لحظة عابرة.”
To see a World in a Grain of Sand,
And a Heaven in a Wild Flower,
Hold Infinity in the palm of your hand,
And Eternity in an hour.
*****