فِطرة الإنسانية في نقائها: تأملات بقلم د. أمين رمضان
تركت كل مشاغلي وراء ظهري، لأذهب إليه، وأعيش معه عدة أيام، ألعب معه، وأراقبه عن كَثَب، حاولتُ أن أنزع نفسي من نفسي، أو أبحث عن الطفل الذي يكمن بداخلي لأخرجه، بعد أن حلَّ محله شخصٌ آخر، شكّلت وجدانه كل لحظات الحياة، بحلوها ومرها، لأكثر من نصف قرن، ربطت حزام الشغف، وحلقت في عالم التأمل أسبوعاً مع حفيدي الوحيد ” يوسُف ” ذي التسعة أشهر.
كانت عقارب الساعة تنبئ عن مرور الزمن، لكنني أحسست أن الزمن متوقف عند هذه اللحظة، لحظة التأمل بيني وبين ” يوسف “، تمنيت أن أدخلَ في عقله، لأرى الدنيا من خلال عينيه، وأشعر بها كما يشعر هو بها، لكنني عجزت، فاكتفيت بالخيال، بحثتُ عن أحرف وكلمات وجمل غير التي تعودت عليها لأكتب بها، جمل في براءة الطفولة، ولغة أخرى نقية من آلام كثيرة شكلها الناس في وجداني عبر العمر الطويل، كانت الرحلة صعبة في أعماقي، لأن مطبات الحياة كانت كثيرة وكبيرة وعميقة، توقفت، حاولت التخلي عن نفسي، وعن الزمان والمكان، لأعيش مع يوسُف اللحظة كما يعيشها هو، لم أستطع أن أنزع نفسي عن نفسي، أصبحت التأملات عابرة للزمن، من اللحظة الآنيّة التي أقضيها معه، إلى الماضي والحاضر والمستقبل، ووقفت مشدوها وأنا أتأمل صورتين مختلفتين تماماً.
صورة الفطرة الإنسانية النقية التي يمثلها ” يوسف “، وصورة الفطرة الإنسانية داخلي بعد رحلة حياة طويلة، رأيت حجم التشويه لهذه الفطرة تحت تقلبات الزمن والناس، رأيت هذا الكمَّ الهائل من الران الذي تكوَّن فيها،
عدت سريعاً لأرتاح مع رفرفة الفطرة الندية في أولى وأبهى صورِها، الصورة الربانية، ذاكرتها خالية من القيود والعقد والأحقاد، تتطلع إلى كل ما حولها ومن حولها، رحلتها لاستكشاف العالم لا تعرف كلل ولا ملل، لا يُوقفها شيء، الاستكشاف بلا حدود .. ولا قيود، آلة الفضول الإنساني لا تتوقف، إلا بتدخلات بسيطة من هنا وهناك، من أجل الحفاظ على الأشياء، التي لا قيمة لها، أمام أغلى قيمة عند الإنسان، الحرية، نعم الحرية في الخطأ والتجربة، والحرية في البحث والاستكشاف، والحرية في الحياة بأخلاق الفطرة، والحرية في انطلاق المشاعر كما هي بلا تزييف أو نفاق، والحرية قبل أن تتنازل عن نفسها للآخر تحت أي دعوى بشرية، الحرية في الوصول إلى الله كما يريد هو لا كما يريد البشر، لتظل الحرية حية داخل الفطرة الإنسانية، فلا يستعبدها بشر في أي صورة كانت.
أذهلتني صورة النقاء الإنساني الذي وُلِدنا به جميعاً، وأحزنتني الجرائم التي يرتكبها الإنسان لتشويه هذا النقاء في نفسه وفي الآخرين. تذكرت رحلة الرسل والأنبياء عبر التاريخ الإنساني كله، لتعيد الفطرة الإنسانية المنحرفة إلى أبهى صورة لها، صورتها الأولى، وهالني العدد الضخم للرسل والأنبياء، وشعرت أن الأمر يستحق ذلك، وأن البشرية كلها تستحق ذلك لتحمي الإنسان، كل الإنسان، على الأرض، كل الأرض، من جرائم انتكاس فطرته التي فطر الله سبحانه وتعالى الناس عليها.