عرض وتقديم / إيمان أبو الليل
من حرصِ أمير المؤمنين عليٍّ رضي الله عنه على عدم التفرُّق بين جماعة المسلمين، وحفاظه رضي الله عنه على الدماء، لِمَا فيها من حرمة عظيمة في الإسلام، فقد أرسل إليهم ابنَ عباس رضي الله عنهما لمناظرتِهم، وقد كان هذا الاختيارُ ينمُّ عن فطنة وذكاء أمير المؤمنين علي رضي الله عنه، فعبدالله بن عباس هو مَن هو، فهو حبر الأمة، وترجمان القرآن، والقوم كانوا يستدلون بآيات الله ويتناولون القرآن، فهذا هو ترجمان القرآن يناظرهم.
فلننظر ماذا جرى؟
يقول ابن عباس رضي الله عنه: “فخرجت إليهم ولبست أحسنَ ما يكون من حلل اليمن، وترجَّلت ودخلت عليهم في دارٍ نصف النهار – وكان ابن عباس رجلاً جميلاً جهيرًا – فقالوا: مرحبًا بك يا بن عباس، ما هذه الحُلَّة؟
قال: ما تعيبون عليَّ؟ لقد رأيت على رسول الله صلى الله عليه وسلم أحسن ما يكون من الحلل، ونزلت: ﴿ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ ﴾ [الأعراف: 32].
قالوا: فما جاء بك؟
قال: قد أتيتُكم من عند صحابة النبي صلى الله عليه وسلم من المهاجرين والأنصار، من عند ابن عمِّ النبي صلى الله عليه وسلم وصهرِه، وعليهم نزل القرآن، فهم أعلم بتأويله منكم، وليس فيكم منهم أحد لأبلغكم ما يقولون، وأبلغهم ما تقولون.
فانحنى لي نفر منهم.
قلت: هاتوا ما نقمتُم على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وابن عمه.
قالوا: ثلاث.
قلت: ما هن؟
قالوا: أما إحداهن: فإنه حكَّم الرجال في أمر الله، وقد قال الله: ﴿ إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ﴾ [الأنعام: 57]، فما شأن الرجال والحكم؟
قلت: هذه واحدة
وأما الثانية، فإنه قاتل ولم يَسْبِ ولم يغنَمْ، فإن كانوا كفارًا لقد حل سبيُهم، ولئن كانوا مؤمنين ما حل سبيُهم ولا قتلهم.
قلت: هذه اثنتان، فما الثالثة؟
قالوا: محا نفسَه من أمير المؤمنين، فإن لم يكن أمير المؤمنين، فهو أمير الكافرين.
قلت: هل عندكم شيء غير هذا؟
قالوا: حسبنا هذا.
قلت لهم: أرأيتُكم إن قرأتُ عليكم من كتاب الله جل ثناؤه، وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ما يرد قولَكم، أترجعون؟
قالوا: نعم.
قلت: أما قولكم: حكَّم الرجال في أمر الله، فإني أقرأ عليكم من كتاب الله أن قد صيَّر الله حكمَه إلى الرجال في ثُمُن رُبُع درهم، فأمر الله – تبارك وتعالى – أن يحكموا فيه، أرأيتم قول الله – تبارك وتعالى -: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوَا عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [المائدة: 95]، وكان من حكم الرجال، أنشدكم بالله أفحُكم الرجال في صلاح ذات البَيْن وحقن دمائهم أفضل، أو في أرنب؟
قالوا: بلى، بل هذا أفضل
وفي المرأة وزوجها: ﴿ وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا ﴾ [النساء: 35]، فأنشدكم بالله، حكم الرجال في صلاح ذات بَيْنهم وحقن دمائهم أفضل من حكمهم في بُضْع المرأة؟!
خرجت من هذه؟
قالوا: نعم.
قلت: وأما قولكم: قاتل ولم يسبِ ولم يغنَم، أفتسْبُون أمَّكم عائشة، تستحلُّون منها ما تستحلون من غيرها وهي أمكم؟
فإن قلتم: إنا نستحلُّ منها ما نستحلُّ من غيرِها، فقد كفرتم، وإن قلتم: ليست بأمِّنا فقد كفرتم، والله – عز وجل – يقول: ﴿ النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ ﴾ [الأحزاب: 6]، فأنتم بين ضلالتين، فأتوا منها بمخرج، أفخرجتُ من هذه؟
قالوا: نعم
وأما محا نفسَه من أمير المؤمنين، فأنا آتيكم بما ترضون، إن نبي الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية صالح المشركين، فقال لعليٍّ: ((اكتُبْ يا علي: هذا ما صالح عليه محمد رسول الله))، قالوا: لو نعلم أنك رسول الله ما قاتلناك، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((امحُ يا علي، اللهم إنك تعلم إني رسول الله، امح يا علي، واكتب: هذا ما صالح عليه محمد بن عبدالله))، والله لرسولُ الله خيرٌ من علي، وقد محا نفسه، ولم يكن محوه نفسه ذلك محاه من النبوة.
أخرجتُ من هذه؟
قالوا: نعم
فرجع منهم ألفان، وخرج سائرهم، فقاتَلوا على ضلالتهم، فقتلهم المهاجرون والأنصار
وبلَّغ رسوله، وسجد سجود الشكر، وكبَّر الناس حين رأَوْه واستبشَروا
-وكان هذا استبشارًا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم السابق ذكره، والمشهور بحديث ذي الخُوَيْصِرة، وقد جاء فيه: ((آيتُهم رجلٌ أسود، إحدى عَضُدَيْه مثل ثَدْي المرأة، ومثل البَضْعة تَدَرْدَرُ، ويخرجون على حين فُرْقةٍ من الناس))، قال أبو سعيد: فأشهَدُ أني سمعتُ هذا الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأشهد أن عليَّ بن أبي طالب قاتلهم وأنا معه، فأمر بذلك الرجل، فالتُمِس فأُتِي به حتى نظروا إليه على نعت النبي صلى الله عليه وسلم الذي نعته
انتهت المعركة، ودُفِع شرُّ الخوارج، ووُئِدت الفتنة، ولم يتبع أميرُ المؤمنين الذين فرُّوا، ولم يُمثِّل بقتيل، ولم يقتل جريحًا، ولم يسب نساءهم ولم يغنَمْ أموالهم ولا ذراريَّهم.
وهذا يدل على أن قتال أمير المؤمنين لهم لم يكن لمجرد القتال لذاته، بل كان لردِّهم عن طريق البغاة، وإرجاعهم لجماعة المسلمين، وكان ذلك ظاهرًا جليًّا في فعل أمير المؤمنين معهم.
يقول ابن قدامة: “ولأن قتال البغاة إنما هو لدفعهم وردهم إلى الحق لا لكفرِهم، فلا يستباح منهم إلا ما حصل لضرورة الدفع ، كالصائل وقاطع الطريق، وبقي حكم المال والذرية على أصل العصمة
ويتبيَّن لنا من قول ابن قدامة أنهم ليسوا كفارًا، بل هم فِرْقة من المسلمين بغَوْا عليهم وتفرَّقوا، وفارقوا الجماعة.
وقد سُئِل أمير المؤمنين علي رضي الله عنه: أكفَّار هم؟ قال: من الكفر فرُّوا، فقيل: منافقون؟ قال: المنافقون لا يذكرون الله إلا قليلاً، قيل: فما هم؟
قال: قوم بغَوْا علينا فقاتلناهم.
وفي رواية: قوم بغوا علينا فنُصِرنا عليهم.
وفي رواية: قوم أصابتهم فتنة فعمُوا فيها وصمُّوا