الفن والثقافة

قراءة نقدية في رواية (مملكة الهالوك) لخالد بدوي

رواية (مملكة الهالوك) ابنةُ الظرفِ الاجتماعيِّ التاريخيِّ المعقّد الذي نَحياه

 

بقلم دكتورة/ منى محمد حسن بركات

إذا كانت الثقافةُ هي محصّلةُ ما يرسخُ في عقولِ الناس، ويطبعُ سلوكياتِهم، ويؤطّر إلى حدٍّ كبير مدى نجاحِهم أو فشلهم في الحياة العامة، فإنّ نوعيةَ النتاجِ الأدبيِّ سواءً أكان شعراً أو نثراً أو فناً تشكّلُ السمةَ الأساسيةَ في تحديدِ طبيعةِ المنحى الثقافي لأي بلدٍ من البلدان.

ونحنُ اليوم أمام رواية هي ابنةُ الظرفِ الاجتماعيِّ/ التاريخيِّ المعقّد الذي نَحياه، والذي يكادُ يشكلُ الرحمَ الحقيقيَّ لكثيرٍ من النتاجات الأدبية/ الفنية التي يسعى مؤلفوها إلى ابتداعِ (عمل إبداعي) يروون من خلالِه واقعَهم وأحوالَه وحكاياتِ ناسِه.

تبدو روايةُ (مملكة الهالوك) -كشأنِ الكثير من الروايات العربية النابعة من الحاضنة السوسيولوجية- صوتاً بالغَ الاحتجاج ضد انعدام العدالة الاجتماعية في المجتمع العربي وما نجم عنه من فقر شديد، وأيضاً ضد الفساد السياسي والقهر والقمع وما نجم عنهم من مسخ طال الشخصية العربية.

تبدو هذه الرواية صوتاً باحثاً بلهفةٍ عن العدالة والمساواة والحرية؛ صوتاً يبغي تجسيدَ الظلم والجهل والتخلف، ونقدَ السلطة (السياسية/ الاجتماعية/ الدينية) والثقافة السائدة في المجتمعات العربية.

إنها روايةُ ترمي إلى تكسير نمط علاقة الطبقة الأشد فقراً بالسلطة، في محاولةٍ لتفكيكَ الخطاب الإعلامي، واختراقَ تابوهاته؛ لتوليد إثارةٍ، وخلقِ حدثٍ بالمعنى الروائي المتداول. وبذلك تهدفُ هذه الرواية إلى ممارسةِ دورٍ نقدي تجاهَ السلطة المهيمنة منذ أكثر نصف قرن لصالح تظهيرها معانيَ إنسانيةً ووطنية بعيدةً عن تزييف الواقع.

وتقدم الرواية أيضا ًنموذجاً يهدف إلى تفكيك للتطرف الديني روائياً. ذلك التطرف الذي يأخذ أهميته الظرفية في ظل تصاعد الحركات الإرهابية المتأسلمة التي أدلجت الدين الإسلامي منذ مدة، وتمسّحت به زوراً وبهتاناً، وزوّرت الكثير من معانيه، فعكست واقعاً وجودياً وثقافياً مأزوماً لم يعد يستشعر قيم الإسلام السمحة الحقيقية.

العنوان ومفتتحات الفصول

ولنبدأ قراءتنا من العنوان: عنوان الرواية هو (مملكة الهالوك)؛ والهالوك هو كما جاء على ظهر غلاف الرواية: “نبات كان قديماً من النباتات الطبية التي تدخل في تركيب بعض الأدوية والعقاقير لمعالجة بعض الأمراض. أما حديثاً فتم تصنيف الهالوك كنبات ضار يؤدي إلى مزاحمة النباتات الاقتصادية على احتياجاتها الغذائية”.

وعليه فإن (مملكة الهالوك) هي مملكة الإنسان المصري العادي صاحب حضارة سبعة آلاف سنة، الذي كانت حضارته قديماً دواءً شافياً لكل مشاكل البشرية؛ ليطحنه حديثاً النظام الرأسمالي المتوحش بالفقر والجوع والمرض والقهر والقمع فيتم تصنيفه كنبات ضار تلتهمه الكيانات الاقتصادية الضخمة.

أما الملك على هذه المملكة البائسة فهو (حارس) الذي أصبح “بين عشية وضحاها ملكا متوجاً لمملكة بائسة”.

هل تريدون دليلاً على رؤيتي هذه؟!. الدليل موجود على ظهر الغلاف أيضاً حيث يردف الكاتب بعد المقتطف قبل السابق قائلاً: “التطفل البشري تحكمه صور كثيرة؛ مثل: تبادل المنفعة، التكافل، المعاشرة، المعايشة، العبودية، المرافقة. وهذه العلاقات لا تبني علاقة بشرية سوية؛ لأن لكل مجتمع هالوكاً يجب النظر إليه بمنطق التصنيف القديم”.

ثم لنردف بالنظر إلى مفتتح الرواية؛ فلمفتتح الرواية من حيثُ هو موقعٌ يبدأ به خطابُ الرواية -كما هي بدايةُ كلِّ خطاب- أهميةٌ بنيويةٌ دائماً؛ لأنّ الافتتاحَ كما يقول (رولان بارت): ”منطقةٌ خطرةٌ في الخطاب، وفعلٌ عسيرٌ إنه الخروجُ من حالةِ الصمت”.

افتتح الكاتب الرواية بتمهيد لمحتوها، وهي فكرة جيدة وجديدة لتهيئة المتلقي لما سيخوضه من بحور السرد. في التمهيد مهد المؤلف للمأساة التي سوف يلقيها على أكتاف (الشخصيات الروائية) وتعجز الحكومة عن حلها؛ مأساة البشر الذين يحيون حياة اللاجئين في وطنهم. يعيشون فوق مياه المجاري الطافحة!؛ يعيشون مع الحشرات القاتلة!. يقول الكاتب في المفتتح: “لم يستطع الموظف المكلف بمهام عمله …

فالكاتب فيه يكرس ومن أول جملة في الرواية لحالة عدم الاستطاعة؛ حالة العجز التي سيطرت على البلاد شعباً وحكومة.

ثم يأتي مفتتح الفصل الأول من الرواية -بعد التمهيد الذي استغرق ثلاث صفحات- لكي يدفعنا إلى محاولة التأويل لما يتضمنه العنوان ومفتتح التمهيد من إيحاءات سيؤكدها فيما بعدُ خطابُ هذه الروايةِ وتداعي أحداثها. يقول الكاتب تحت عنوان الفصل الأول وفي نفس الصفحة: “الحكومات ترتكب الجريمة غير اللائقة في حق شعوبها تحت مسميات لائقة، والآباء الفقراء أيضاً يرتكبون نفس الجرائم لكن تحت مسمى القدر والنصيب”.

فبعد العجز أتى الحديث عن الجرائم غير اللائقة التي ترتكبها الحكومات و(الآباء أو المسئولين) ضد الشعوب، وقدرة مرتكبي الجرائم على أن يجعلوا هذه الجرائم تظهر بطريقة لائقة أمام الشعب عبر وسائل الإعلام.

أما مفتتح الفصل الثاني فجاء فيه: “أحلامي مثل ألعاب الأطفال.. صغيرة، كثيرة، سهلة الكسر”. لنخمن أن عجز الحكومات وجرائمها قد أدى إلى انكسار أحلام المواطن ليس الكبيرة فقط ولكن أيضاً الأحلام الصغيرة!. ومع ذلك نراه صابراً لا يعصِ أمراً؛ ولا يحرك ساكناً.

أما مفتتح الفصل الثالث فجاء فيه: “كانت بهذه الغرفة قصة كبيرة عميقة المعنى لكن لم تكمل، بل ساعدتنا الطبيعة في إهالة التراب عليها”(. فهل هذا يعني أن دورنا الحضاري قد انتهى تماماً؛ هلك ودفن وأهيل عليه التراب، وأنه حتى الطبيعة تحاربنا.

أما مختتم الرواية؛ (آخر جملة فيها) فأوصل الكاتب فيها الشعب إلى مرحلة العمى قائلاً: “ليس على الأعمى حرج”.

العنوان ومفتتحات الفصول ومختتم الرواية احتشدت فيهم معانٍ كثيرة ليضعنا الكاتب بذلك أمام أفقٍ شاسعٍ للتأويلات؛ وهذا ما يجعلنا نستنجد بالمتن، لنحاول تلمُّس المعنى في الخطاب النصي للرواية.

النص 

تبدأ الرواية بأزمة (حارس) العصيبة، ذلك الصبى اليافع، المجتهد في مدرسته، القارئ المثقف الذي يقرأ كتباً متنوعة المشارب؛ تاريخية وتراثية وسياسية وأيديولوجية وعلمية وأدبية … إلخ بالإضافة إلى كتب المدرسة؛ نراه وهو منهار نفسياً وعاطفياً إثر موت أبيه ماسح الأحذية المعدم الذي تركه وأمه وأخاه دون عائل في بدروم أوطى من مستوى الشارع؛ بسبعة عشر سلمة في أحد الأحياء العشوائية/ ب(مساكن عبد العزيز عزت) بمدينة إمبابة، وما تولد عن هذا الحدث من تحولات وانقلابات.

فإثر تلك الحادثة يترك (حارس) المدرسة لكي يقدر أن يكرس كل وقته لممارسة عمله كماسح أحذية خلفاً لأبيه؛ حتى يستطيع أن يوفر فقط القوت الضروري للأسرة. إنه يعول أمه وأخاه الكبير الشقي الذي يمارس البلطجة ويتعاطى المخدرات ويتحدى قوات الشرطة التي كان أفرادها يمارسون في حيهم البلطجة والفساد واستغلال النفوذ حتى صار –أخوه- رجلاً لا طائل ولا فائدة من ورائه لا للمجمتع ولا للأسرة ولا حتى لنفسه.

ومما زاد من أزمة (حارس) أن حبيبته (نرجس) -المنحدرة من أسرة كانت ميسورة الحال ثم أفقرها الدهر- قد تركته لتتزوج من قريبها الغني ذي النفوذ الواسع واليد الطائلة. و(نرجس) في هذه الرواية كانت رمزاً لمصر التي لم تستطع أن تولي أمرها لأبنائها البررة الذين تحبهم ويحبونها، ليلتهم خيرها الرأسماليين ذوي النفوذ الواسع واليد الطائلة ويسيطرون على مقاليد الأمور فيها. فـ”يا نرجس هل توقف ماء النيل في قلبك في زمان الرأسماليين؟!.. لا أجد للمرء عيباً أكثر من الفقر لأنه فضوح”.

لنرى (حارس) وهو يستغيث من كل تلك الأزمات -كما كان يفعل والده- بضريح سيدي الإمبابي دون فائدة ثم بالجماعات الأصولية ولا فائدة؛ ليعود من جديد إلى ضريح سيدي الإمبابي ثم يتركهم إلى الجماعات الأصولية ولا فائدة؛ فلا تحسين لمستوى المعيشة ولا دفع لبأس هذه الحياة ومصائبها؛ حيث يخرج من دائرة والواقع المحبط وعجز الحكومة والجهل الديني والإسلام السياسي صفر اليدين.

إن هذه الأزمة السياسية/ الاجتماعية كانت المحور الرئيسي في تَكَوُّنِ أحداث الرواية، وتبلْوُرِ أساسِها الموضوعيِّ والدلالي ونموِّه وتشعبه، وفي جعْلِ الرواية -وفقَ منظومةِ تنامي الحدث- تتجهُ إلى المساحة الأكبر التي تندرجُ حياةُ الشخصية الرئيسية فيها، لتسقط على المجتمعِ كله؛ على الواقعِ المصري/ العربي، أو تحديداً على واقعِ المواطنين المعدمين الذين يعيشون في المناطق العشوائية التي انتشرت أخيراً في دول كثيرة من الوطن العربي كله؛ المكان الذي تنتمي الرواية إليه، وتتخذُ منه فضاءً لأحداثها في تجلياته بوصفه سلطة وجودٍ وثقافةٍ. حيث كانت حياة الناس فيه تساوي إلى حد بعيد نمط حياة اللاجئين الفلسطينيين في مخيمات/ معسكرات اللجوء، في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، أو ربما هي أصعب منها.

ف(حارس) -البطل المعدم الذي مات أبوه وهو في المرحلة الاعدادية، وترك المدرسة بعد “عامين قضاهم في مدرسة الاستقلال الثانوية العسكرية بنين بمدينة إمبابة” هو أحد اللاجئين في بلادهم، وهو المعادل الموضوعي للمسحوقين من الشعوب العربية؛ ولذلك جعله المؤلف على طول الرواية في حالةِ بؤس وعجز وإحباط وضياعٍ؛ ترتكب الحكومات (في حقه/ في حق شعوبها) جرائم غير لائقة تحت مسميات لائقة.

وهذا هو حال أبيه الذي مات محصوراً بسبب شدة الفقر والمرض، وحال أخيه (محروس) الذي قتله تدني مستوى التعليم في مصر والفقر المدقع وفساد الشرطة وقهرها وقمعها، وحال (أم محروس التي ماتت قهراً وكمداً بعد موت ابنها (محروس) في ريعان شبابه ناهيك عن فقرها ومرضها قلة حيلتها.

وأيضاً هو حال (نرجس/ مصر) التي ضاعت بين حبها لحبيبها المعدم (حارس) المقيم في البدروم وبين قريبها الغني الفاسد المتلهفِ على جسدها؛ لتؤثر السلامة وترضى بأن تكون عبدة العزيز وتتزوجه مضحيةً بحبها وحبيبها.

وأما الطامة الكبرى فهي أن هذا الحال من البؤس والعجز والإحباط والضياعٍ كان هو حال المعدم الذي يتاجر بمرضه القاتل ويتقاضى عليه أجراً من طلبة الطب الذين جعلوا من جسده حقلاً للتجارب الطبية، (عم عرفة الغريب) بطل حربي الاستنزاف وأكتوبر الذي تُنُكِّر لتضحياته في سبيل الوطن، وتُرِكَ دون مصدر رزق أو تأمين صحي ليتسول قوت يومه بعد أن استنزفت الحربين شبابه. ومما زاد طينه بلة عقوق أبنائه (أبناء المحاربين؛ الذين هم رمز للجيل الجديد من الشعب؛ جيل السلام؛ الجيل الذي سمع بحرب أكتوبر لم يحضرها)؛ الأبناء الذين طردوه من منزله لينضم إلى المعدمين الضائعين في بدروم العمارة المتهالكة في (مساكن عبد العزيز عزت) العشوائية.

وهذه المأساة بالذات هي أكثر ما يدمي القلب حين نتابع لسان الراوي العليم (حارس؛ الشخصية الرئيسية) وهو يقص حكاية الشخصية المساعدة (عم عرفة الغريب) ويقول: “تذكرت حكايات عم عرفة الغريب كان في شبابه من الذين شاركوا في حرب الاستنزاف، وظل بالخدمة العسكرية حتى نال شرف المشاركة في حرب السادس من أكتوبر، ضحك كثيراً وهو يحكي لي عن قصص كثيرة تمتلئ بالبطولة، شارك في قتل وأسر عدد من جنود العدو الصهيوني، هذه المرة الوحيدة التي أرى فيها وجه الرجل مبتسماً، كيف كان يقضي أيامه، ما زال يتذكر اسم الوحدة.. رقم السرية.. ورقمه العسكري المحفور على سلسلة حديدية يحتفظ بها إلى الآن (…) قضى أيام التجنيد ثماني سنوات لظروف الحرب التي كانت تمر بها مصر منذ سنة ألف وتسعمائة وستة وستون، وحتى نهاية ألف وتسعمائة وأربعة وسبعين. خرج وكان عمره أكثر من خمسة وثلاثين عاماً (…) داخل أعماق نفسي أشعر بالأسى لما وصل إليه حال الرجل!..”.

وفيما بعد سيبرز ضياع (حارس) الأكبر ما بين (قهر الشرطة/ الحكومة وقمعها)، وجهل الأفكار الدينية القديمة المتحجرة التي ترى أن هناك رجاءً يرجى من وراء ضريح سيدي الإمبابي، والاتجاهات الدينية المستجدة على المجتمع العربي، والتي تمثلت في الجماعات الأصولية.

والضياع الأخير الذي يتبدّى للقارئ هو ضياعُ الكرامة؛ كرامة الجميع؛ المحاربين القدماء وتلاميذ المدرسة العسكرية؛ ضياع هوّية الإنسان المصري؛ فالمحارب الذي استعاد كرامة الأمة العربية كلها؛ وطرده أبناؤه من مسكنه وتُرك دون عائل؛ لم يعد أمامه من سبيل سوى الاتجار بمرضه وجعله حقلاً للتجارب والاستجداء، وحارس/ المصري المعدم (تلميذ المدرسة الثانوية العسكرية) الذي كانت كرامته أعز عليه من نفسه؛ فقبل بترك دراسته وعمل في الأعمال الوضيعة ولم يرضَ أبداً بالتسول؛ كان التسول -في نهاية الرواية- هو ما يمارسه ويجيد تقمص حاله، بل ويتمناه وينتظره بعد أن تقطعت به السبل. فلا سكن ولا ستر ولا طعام ولا تعليم ولا صحة ولا بصر ولا… إلخ؛ ولم يعد أمامه إلا التسول؛ “عادت تهمس في أذني بأن البيك قادم؛ حاولت إبراز حاجتي للعوز أكثر برسم حالة من البؤس الشديد على هيئتي”.

ويحاولُ الكاتب -عبر الراوي العليم بضمير المتكلم- الذي وظّفه أن يقولَ الواقعيَّ والأيدلوجيَّ الذي يؤمن به، ما دام فعلُ القص هو إعادةَ القراءة لهذا الواقعيّ، وتقديمَه فنياً عبر لعبةِ القول اللغوي، بهدف اكتساب أحقيةِ الكلام في زمنِ مصادرةِ الكلام من قبل المؤسسة السياسية التي تُحكم قبضتَها على منطوقِ البشر. وهذا بالذات هو ما نقرؤه على لسان الراوي العليم إذ يقول: “كثرة السير على المسطحات الخضراء يفقدها اخضرارها، وكذلك الفقر المدقع يفقد الإنسان إحساسه بذائقة تجمل وجهه.. كلاهما موطئاً لنعال السابلة”.

وإذ يقول: “بأن الأيام بين الفقراء تُكتب أحوالها على ورق الكربون الذي ينقل لنا صورة طبق الأصل، لكن مداده يزداد سواداً”.

وإذ يقول: “لا جنة للفقراء على الأرض”.

لذلك يندفعُ إلى الحديث عن القانون الذي تُحكَم به البلاد: “القانون لا يحمي الفقراء.. وأيضاً لا يحكم بالنوايا”.

ويندفع إلى الحديث أيضاً عن تجاوزات جهاز الشرطة التي اغتصب أحد رجالها أخاه بوحشية وأجبروه على أن يسمي نفسه باسم امرأة؛ يقول الراوي العليم: “خشية أن ألمس دون قصد جسده المعذب. خرج من السجن بعد التعهد الذي قطعه على نفسه بعدم ممارسة البلطجة مرة أخرى، اعتذر لرجل الشرطة الذي اعتدى عليه.. كان محروس قد ضرب ضابط شرطة؛ فدخل إلى القسم واقفاً على قدمين، وخرج منه بقايا إنسان، كشف لي عن ظهره الذي وضحت عليه بقع باللون الأزرق، وتكتلات من الدم تحت الجلد، آثار بشعة للتعذيب، في منتصف الليل تبول على نفسه، شممت رائحة برازه، لم أستطع أن أمنع دموعي التي تساقطت رغم أنفي عندما ساعدته للذهاب للاستحمام ولقضاء حاجته التي قضاها على نفسه مرات عديدة بعد خروجه من السجن”.

هكذا يبدو القاصُّ في الروايةِ، وكأنه يعيشُ كما ترى الناقدة (يمنى العيد): “زمنَ الحرياتِ الفردية، زمنَ الثقافة وقدرةِ الإنسان على أن يكونَ له صوتُه في صداماتِ الحياة وأوضاعِ المجتمعات فيها”. فيصبح القولُ السردي هو الأيديولوجي المتشكل فنياً عبر اللغوي.

وقد حاول كاتبنا عبر هذا الشكلِ الفني الذي اتخذه مادةً لنثرِه -أعني الرواية- أن ينتج الأيديولوجي من خلال الأدبي كديناميةٍ تُحتسب له، عساهُ بذلك يحيلُ -عبرَ القراءة- على واقعِ الناس الذين يعيشون علاقاتِ الصراعِ الاجتماعي الثقافي الأيديولوجي في الوطن العربي.

 أمّا على صعيد الشخصيات:

إذا كانت الروايةُ ليست إلاّ قصةَ لقاءِ الشخصياتِ مع بعضِها وإخباراً بالعلاقات التي تنشأ بينها، على ما يذهب إليه الناقد (شارل كريفَل)، فإن هذه الروايةَ هي قصةُ الحبّ الضائع؛ حب (حارس) و(نرجس) وقصة التقاطعات الاجتماعية/ السياسية والدينية التي تفاعلت معه.

تعكس مسيرةُ (حارس) من حيث وظيفتُها السردية منطقاً فكرياً هشاً سريعَ العطب، فهو شخصيةٌ بالغةُ الانكسار، تغرقُ في الأزمات الاجتماعية السياسية؛ حتى تعميها، على الرغم من أنه كان في ماضيه طالباً في المدرسة الثانوية العسكرية، قارئاً؛ صاحبَ أفكار ومبادئ، مثقفاً ثقافة متعددة المشارب، جذاباً لأهله ومدرسيه ومرافقيه وجيرانه وحبيبته. ثم نجدُه وهو يسقط إثرَ أزمة وفاة والده وعوز الأسرة الشديد وانفلات (نرجس) من يديه؛ في الانطواء والهروب إلى حمأة الشهوات الجسدية سواءٌ من خلال النظر من ثقب باب الحمام إلى عورات النساء، والتصنت على أصوات الجيران وهم يمارسون الجنس، أو عن طريق الاحتكاك بأجساد النساء في الأوتوبيس، أو عبر التحرش بجارته.

وتتأكد هذه الهشاشة عندما يلجأ (حارس) إلى الاستماع إلى الخطب الصادرة من إحدى الجماعات الدينية علَّه يجد لأزماته مخرجاً، ثم يتراجع عن خطهم بعد أن لم يجد من ورائهم رجاءً يرجى لتحسين الأحوال؛ ليعاود نمط تدين أبيه؛ النمط القديم؛ نمط اللجوء إلى ضريح سيدي الإمبابي. ثم ينصرف عنهم جميعاً مقتنعاً بأنه ليس أمامه أجدى من التسول.

في المقابل حضرت الشخصية المساعدة (ياسر المنزلاوي) ابن الطبقة الغنية ذات اليد الطائلة، التي تستطيع أن تنال كل شيء تريده مستغلة سلطاتها وعلاقاتها ومصالحها المشتركة مع ذوي النفوذ الواضح والسلطان والمال في البلاد.

وبالتوازي بين هذين النموذجين -الرجولة المتداعية الهشة رغم إمكانياتها العلمية وتفوقها، وذوي النفوذ والسلطة- يتنامى فعلُ القول في هذه الرواية التي نسجتْ خطابها اللغوي بدراية وعناية، وبشعرية حقيقية صافية وهي تستدعي الأحداث المأساوية من خلال اللغة الشعرية والصور البلاغية التي أتقن الكاتب سبكَها؛ (وهنا نسجل أن الكاتب يمتلك قدرة على الاستشهاد بأشعار (أحمد شوقي) وأشعار كتاب (طوق الحمامة) وغيرهما، وبمقولات للأدباء، إضافة إلى شذرات من الصور البلاغية المبثوثة ببراعة شاعر في متن الرواية!.

وكانت اللغة تنتقل ما بين الفصحى والعامية المهذبة والعامية المبتذلة التي شابتها ألفاظ سوقية في كثير من سرد الرواية؛ وربما كان ذلك متعمداً من الكاتب لكي يشيى بمدى ابتذال الواقع وتشوهه.

ومن هنا فإن عنوان الرواية (مملكة الهالوك) قد جاء مناسباً لمحتواها معبراً عنه؛ فالجميع هلكوا في خضم الأزمات التي كان أثقلها المجاري الطافحة والحشرات القاتلة والقذارة ولم ينجُ أحد.

أما الغلاف فبحاجة إلى التغيير ليكون أكثر تعبيراً عن محتوى الرواية.

وعليه سادتي فإن هذه الرواية هي خطاب النخبة الثقافية التي يعوقها الواقع المأزوم عن الاختيار الحقيقي للواقع والمستقبل، وعن فضاء الحرية كبطلها.

خطابٌ بدت لنا معه الذاتُ الساردة، وكأنها تنتقل من مستوى الفعل الإنشائي إلى مستوى الفعل التسجيلي والتوثيقي أحياناً، إذ تنقلُ في متنها بعضَ الأحداث التاريخية التي شهدتها تسعينيات القرن الماضي؛ لتبرزُ لنا بعض أسباب ما نراه في الحاضر الذي غدى بائساً منفراً (من مثل حديث الراوي عن ظهور الرئيس السابق محمد حسني مبارك في نشرة الأخبار وحديثه عن مؤتمر السكان).

ولننظر إلى هذه المفارقة؛ الرئيس يشهد (مؤتمر السكان)؛ وجزء كبير من سكان مصر يعيشون في العشوائيات ذات المجاري الطافحة، مع الحشرات القاتلة.

كما نقل لنا الفعل التوثيقي حسرة الراوي على بطل حربي الاستنزاف وأكتوبر وهو يحكي عن قصص كثيرة تمتلئ بالبطولة، حيث شارك في قتل وأسر عدد من جنود العدو الصهيوني، وما زال يتذكر اسم وحدته العسكرية ورقم السرية ورقمه العسكري المحفور على سلسلة حديدية يحتفظ بها إلى الآن.

لذلك نبيحُ لأنفسنا الحديثَ عن هوّيةٍ متصدعة وذاتٍ منقسمة سردياً وإيديولوجياً؛ ذاتٍ تعيشُ الحاضرَ بوطأته، وتعيشُ الماضيَ الذي هو ذاكرتُها ومجدها؛ ذاتٍ متموضعةٍ في مَقامٍ مجتمعي/ ثقافيٍّ معين، لكنها في المقابل تبقى ذاتاً إنسانيةً تبحثُ عن وجودٍ إنسانيّ حقيقي حرٍّ وعادل؛ يرفض أن يظل الشعب عبداً للعزيز.

 من عيوب الرواية:

-ارتكازها كمحور للقص على: القبح والتشوه في المكان، والانكسار الذي يصل إلى حد الذل في رسم الشخصيات، والإكثار من مشاهد الجنس.

-للأسف تخلو الرواية من أية شخصية من الشخصيات المكينة أو المنتجة الفاعلة أو التي استطاعت أن تتخطى أزمتها، وليس بها شخصيات مناضلة مقاومة، أو حتى شخصيات قادرة على الاستمرار والانتاج والتحدي والتوازن، إذ لم يستطع أحد من الشخصيات المباشرة بفعل التغيير عبر القول الواعي، أو عبر الالتزام السياسي.

-أما بالنسبة للشخصيات النسائية فقد خلت الرواية من أنموذج المرأة المستقلة بذاتها، الواعية بدورها في المجتمع أو الجادة والواثقة بنفسها؛ حيث كسرت قساوة الحياة في (مساكن عزيز عزت) وعجز الحكومة وفساد الشرطة كل شخصيات الرواية رجالاً ونساءً وأطفالاً وأهلكتهم.

ولكني في النهاية لا أجد أمامي سوى أن أنحني إعجاباً وتقديراً للكاتب الروائي والقصصي المبدع الاستاذ (خالد بدوي) على هذه الرائعة الأدبية مع تمنياتي له بدوام التقدم والازدهار لإمتاعنا بمزيداً من ابداعاته الروائية والقصصية.

هذه الدراسة قيلت بقاعة المركز الدولي للكتاب، التابع للهيئة المصرية العامة للكتاب، يوم 4 / 3 / 2020م. حيث نوقشت الرواية بحضور مؤلفها وعدد كبير من كبار النقاد والأدباء والإعلاميين والمهتمين بالأدب.

 المصادر والمراجع:

1-خالد بدوي، مملكة الهالوك، ط1، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، 2020م.

2-رولان بارت، التحليل النصي، ترجمة: عبد الكبير الشرقاوي، الرباط، منشورات الزمن، 2001م.

3- يمنى العيد، كل كتابة لها مرجعياتها، د. يمنى العيد: عملتُ على تحقيق حلم بأن يكون كل قارىء ناقداً، جريدة البيان؛ فكر وفن، دبي، دولة الإمارات العربية المتحدة، عدد: 16، يوليو 2000م.

دكتورة/ منى محمد حسن بركات
عضو إتحاد كتاب مصر ونادي القصة 
فازت بجائزة إحسان عبد القدوس للنقد عام 2019

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.