بقلم / ممدوح الشنهوري*
كان منذ صغره شفوف بسماع قصة سيدنا يوسف عليه السلام، لسبب ما لا يعلمه؟ وعندما كبر تعلق بداوم قراءة قصتة العديد والعديد من المرات، حتي بلغ أشده من العمر. وكان وحيدا علي ثلاث بنات لأم توفيت وهو في سن السادسة من عمره بمرض السل . كان ذلك صبيحة أحد أيام الشتاء القارصة، وكان وقتها واقف في طابور الصباح بمدرستة الإبتدائية تملأ إبتسامتة البريئة وجهه الجميل وشعرة المسدل علي رأسة بنعومة وكأنه ذلك الفتي الصغير الذي جسد دور سيدنا يوسف في صغره في ذلك المسلسل الشهير الخاص بسيدنا يوسف، وفجأة أمسك يده أحد مدرسية وقال له لقد أتي والدك ليأخذك الي المنزل، دون ان يعلمة لماذا؟. ومسك الوالد إبنه الصغير وصار الإبن بجوار والده متوجهين نحو منزلهم الصغير في احد قري الأرياف، ولم يسأله الفتي لماذا جاء ليأخذه من المدرسة أو لما هي الأسباب.؟
وفي منتصف الطريق وفي أثناء سيره مع والده الي منزلهم لمح دموع والده تسيل من عينه بنوع من الصمت المحير بالنسبة لطفل في سن السادسة من العمر. ليسأله ببراءة الأطفال، ما بك يا أبي ولكن والده لم يجبه حتى وصولوا لمنزلهم .وكان هناك الكثير من النساء التي تتشح بالملابس السوداء ولكن بصمت قاتل .، وكأنها تنتظر قدوم ذلك الصبي الصغير ليري أمه وهي في سكرات موتها الأخيرة. وبين صفين من النساء المتشحين بالسوداء ،سلك والد الصبي ممسك بيده إبنه الصغير الي غرفة بسيطة مبينه بالطوب اللبن ومعرشة بقش القصب ليجد والدته مسجاة علي سرير من الجريد، تنازع سكرات الموت ، ولكنها تنتظر نظرة أخيرة لطفلها حتي تخرج روحها الي بارئها بسلام، ومجرد أن نظرت في عينيه فارقت الحياة.
لتشيب ملامح ذلك الطفل البريء في ثوان معدودة، بسبب حزنه علي والدته، ومما زاد ملامح شيبه مع الأيام هو عدم وجود صورة لوالدته حتي ليتذكرها بها عندما يكبر ، لعدم شيوع التصوير في الأرياف في ثمانيات القرن الماضي بكثرة أنذاك وخاصة للنساء الإ نادرا.
ليمضي بعدها طفولة بائسة مع شقيقاته الثلاث الصغار، ما بين الفقر وبساطة العيش وذلك الحزن الشديد علي فراق والدتة والتي تركت ندبة بقلبة لن يمحيها الزمن بسهوله. وما زاد ذلك البؤس في حياته هو وإخوته الصغار ، هو رحيل والدهم ليلحق بأمهم بعدها بسنوات قليلة، لتتبدل حياة تلك الأسرة البسيطة السعيدة بحنان وعطف الوالدين الي مجرد ذكري جميلة لم يتبقي منها سوي سطور تحمل من جمال الحياه، عالم من الخيال ولكن بدون ملامح للفرح .
ومع الأيام بلغ الفتى أشده ، ليضحي ببراءة بطفولته وشبابه، ليعمل جاهدا من أجل ستر أسرته الصغيره حتي تناسي طعم الفرح كطفل صغير في سن الطفوله . كان أجمل أمنياته في الحياه، هو اللعب مع أقرانه من الأطفال الصغار وظل يعمل ويعمل ليواصل الليل مع النهار حتي زوج شقيقاته الثلاث ليؤدي رسالتة بكاملها نحو تلك الأمانة التي تركها لها والديه رحمها الله.
وبعد زواج إخواتة البنات وكفاحة الشخصي في إتمام دراستة الجامعية، ظن ان الحياة بعدها ستبتسم له بالعوض الجميل بعد ذلك العمر الطويل الذي قضى نصفه بين حزن وكفاح. ولكن ذات ليلة وقبيل صلاة الفجر، أتت له رؤيا عبارة عن هاتف من ملك، يردد في أذنه ثلاث كلمات وهي ” يوسف يوسف يوسف”. ؟
لتنقلب بعدها حياته رأسا علي عقب في كل شيء ، وتذكر حياته وتبين له انه مر بكل صغيرة وكبيرة مر بها سيدنا يوسف من إبتلاء ما عدا سجن سيدنا يوسف عليه السلام فسجن سيدنا يوسف كان بين أربع جدران، أما سجنه فهو كان ليس له حدود في الحياه، لأن سجنه الحقيقي كان داخل نفسه، من تحمل وصبر علي البلاء والظلم من القريب قبل البعيد و.من ضيق ذات اليد بسبب ذلك الإبتلاء الذي طال جزء من رزقه رغم سعيه وجدة في العمل. وكان راضيا بقضاء الله .
وظل ذلك الشاب حائرا في التفكير في بداية سنوات سجنه المفتوح في الحياة والمغلق علي نفسه! ، ما المغزي من تلك الرؤيا التي رأها بتردد كلمة يوسف ثلاث مرات. وتوالت الأيام والسنون علي حياة هذا الشاب ليتبين له في يوم من الأيام ذلك الخيط الأبيض من الأسود ويتضح له ما لم يفهمه في يوم ما من تردد كلمة يوسف ثلاث مرات وما بعدها من إبتلاء طال روحه قبل جسده، وذلك بعد رأى آية من القرآن الكريم في المنام من سورة محمد وهي ” أَفَمَن كَانَ عَلَىٰ بَیِّنَةࣲ مِّن رَّبِّهِۦ”.
وبدأت تتوالي الأيام والشهور والسنون بثقل كالجبال علي كاهل هذا الشاب، وكذلك الآيات المبشرات والمحذرات لتقومه عندما يخطأ في حق وشرع الله بينه وبين نفسه.
وفجأة توقف القطار وإستأذني ذلك الشاب للنزول في محطته القادمة لإكمال الطريق الذي إختاره الله له، دون حتي أن يخبرني بأسمه كاملا ،أو حتي عنوانه من أجل التواصل معه لمعرفة نهايته التي سيكتبها الله له؟ ، ليجعلني بعدها وطوال هذه الرحله دائما أفكر فيه وفي مصيره المستقبلي بعد سماع قصته الغير مكتملة الملامح، وليجعلني ايضا أتساءل بيني وبيني نفسي ذلك السؤال المحير والمؤرق منذ أن قص علي ذلك الشاب قصته، هل كل يوسف في الحياه سيجبره الله في النهاية؟ وكم يوسف بيننا في هذا العصر أو هذا الزمن ولم نسمع عنهم.؟
وطوال رحلتي بالقطار وحتي إقتراب وصولي الي وجهتي ومحطة نزولي قرب بلدتي، وقلبي متعلق بقصة هذا الشاب وكأنني عدت بالزمن للوراء الي عهد سيدنا يوسف لكي أري وأسمع قصته ، ولكن عن طريق واقع شاب عابر سبيل. لا أعلم حتي أسمه أو عنوانه رغبه منه في الإحتفاظ ببعض خصوصيته عن معلوماته الشخصية.
وقبل نزولي بوقت ليس قصير من القطار أخذتني غفوة من النوم من شدة إرهاق رحلة السفر بي، وإذا أرى ملامح ذلك الشاب وهو يبتسم لي ويقول ” هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ۖ وَقَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ” لأفيق من غفوتي مبتسما مدمع العينين في لطف الله بعباده.
*عضو المنظمة المصرية والدولية لحقوق الإنسان