العالمالمجتمع

قُبْلَة حياة الشعوب: تأملات بقلم د. أمين رمضان

صورة تعبيرية
صورة تعبيرية

بينما كنت أعيش بحواسي كلها عبق التاريخ الغابر مع أكبر إمبراطورية وجدت على الأرض، وهي الإمبراطورية الرومانية، من خلال ست حلقات وثائقية عنها عنوانها “عصر الدم”، كنت أسافر بعقلي وكأنني داخل آلة الزمن بين الحاضر والماضي السحيق، القرن الثاني الميلادي، متأملاً ومقارناً بين ما كان يحدث داخل روما في ذلك الوقت، وبين ما يحدث في العالم الآن.

استوقفتني كثيراً شخصية كلياندر، المصارع العبد، الذي قربه الامبراطور الشاب كومودوس عندما تولى عرش الإمبراطورية بعد وفاة أبيه الإمبراطور ماركوس أوريليوس، فحظى كلياندر بالمال والجاه والنفوذ، لكن طموحه كان أكبر من ذلك، والغيرة كانت تتأجج نيرانها في قلبه، لأن الإمبراطور اختار شخصاً آخر غيره، كبيراً لمستشاريه، اشترك كلياندر في مؤامرة لقتل الإمبراطور، والتخلص في نفس الوقت من العقبة التي تقف أمام طموحه وهو كبير المستشارين، لأن نيران الحقد والحسد والغيرة كانت قد وصلت أوجها، وتعدت كل حدود العقل والمنطق والأخلاق، خصوصاً عندما كان يرى كبير المستشارين أمامه في المنصب والمكانة التي يرى أنه يستحقها هو، ونجح في ذلك، لكن فشلت محاولة قتل الإمبراطور، بل إن كلياندر خدع الإمبراطور حتى وصل إلى كبير مستشاريه، فهل توقف طموحه وشره عند هذا الحد؟.

عندما أصبح كلياندر كبيراً لمستشاري الإمبراطور كومودوس ازدادت طموحه وأطماعه أكثر وازداد معه الشر الذي يجري في دمائه اندفاعاً، أراد بسط نفوذه على روما كلها، لكن كانت العقبة التي أمامه هي مجلس الشيوخ الروماني الذي يضم النبلاء وصفوة مجتمع روما وهم أصحاب نفوذ وتأثير وعائلات قوية، ورثوا عضويتهم في مجلس الشيوخ الروماني عن آبائهم، بينما لم يكن كلياندر من النبلاء، المهم نجح في إدخال أعضاء للمجلس من الشعب يدينون بالولاء له، فضمن وقوف وتأييد مجلس الشيوخ له تأييداً مطلقاً وأعمى.

ثم جاء الدور على الشعب، كان يبحث عن الطريقة التي يكتسب بها ولاء وحب شعب روما، ليقوى نفوذه على نفوذ الإمبراطور نفسه، وهداه تفكيره الشرير إلى خطة شيطانية وهي تجويع الشعب، حتى إذا شارف على الموت أعطاه قبلة الحياة، الخبز، فقرر التحكم في القمح الذي كان يأتي لروما من مصر وغيرها، فسيطر على القمح وشح في الأسواق وانتشرت المجاعة، وهو يبتسم ابتسامة الشيطان، منتظراً الوقت المناسب لإعطاء شعب روما قبلة الحياة، حتى يصبح ولاء الشعب الكامل له، لكن سبقه الطاعون الأسود ليفتك بالناس بعد أن جاعوا ولم يجدوا الخبز، وفي النهاية وشت به خادمة عندما رأت أمها تموت أمامها من الطاعون، فأبلغت الإمبراطور بخيانة كلياندر أقرب المقربين له، فقتله الإمبراطور بيده، ولقى جزاء خيانته للإمبراطور والشعب الروماني..

عادت بي آلة الزمن إلى الآن دون أن أدري، لأجد أن قبلة حياة الشعوب لم تتغير، هي نفسها الخبز، وإن تنوعت أشكاله، بشرط تجويع الشعب أولاً، فهل الخبز هو قبلة الحياة فعلاً؟، وهل سيكون ولاء الشعوب لمن جوعوه ثم أطعموه؟، أم أن قبلة الحياة الحقيقية هي الحرية؟، شتان بين شعوب تحركها بطونها أو شهواتها، وشعوب تحركها عقولها أو قيمها، وأعلاها الحرية.

الخبز قُبْلَة حياة القطيع الجائع، الذي ينحني مذلولاً لمن يطعموه، وإن جوعوه، بهم تصبح الحياة مزرعة للإنسان، آسف، الحيوان، أما الحرية فهي قُبْلَة الحياة الحقيقية للشعوب الحرة، التي تموت من الجوع وهي شامخة في عِزَة، تجري في شرايينها دماء الأحرار، لا تنحني نفوسها لبشر، بهم تصبح الحياة إنسانية كريمة بحق، يدفعون دمائهم ثمناً لحريتهم، لأنهم يعرفون أن ثمن الذل أفدح.

الدكتور أمين رمضان aminghaleb@gmail.com
الدكتور أمين رمضان
aminghaleb@gmail.com

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. نعم رغم ادعائنا الاسلام وايمانا ان في السماء رزقكم بكل جهل نطلب العيش من المسؤولين الذين لايملكوه ولا نطلب منهم ان يتركونا احرار ويغلقوا اماكن كبت الحريات…
    أما الحرية فهي قبلة الحياة الحقيقية للشعوب الحرة، التي تموت من الجوع هي شامخون في عِزَة، تجري في شرايينها دماء الأحرار، لا تنحني نفوسهم لبشر، بهم تصبح الحياة إنسانية كريمة بحق، يدفعون دمائهم ثمناً لحريتهم، لأنهم يعرف أن ثمن الذل أفدح.
    تحياتي وتقديري لتفكيركم

  2. نعم رغم ادعائنا الاسلام وايمانا ان في السماء رزقكم بكل جهل نطلب العيش من المسؤولين الذين لايملكوه ولا نطلب منهم ان يتركونا احرار ويغلقوا اماكن كبت الحريات…
    أما الحرية فهي قبلة الحياة الحقيقية للشعوب الحرة، التي تموت من الجوع هي شامخون في عِزَة، تجري في شرايينها دماء الأحرار، لا تنحني نفوسهم لبشر، بهم تصبح الحياة إنسانية كريمة بحق، يدفعون دمائهم ثمناً لحريتهم، لأنهم يعرف أن ثمن الذل أفدح.
    تحياتي وتقديري لتفكيركم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.