كراسات الكُمْب والإِكْس
بقلم / أ. د. مصطفى رجب
في الصف الأول الإعدادي كانت اللغة الانجليزية هي ” البُعْبُع” الجديد الذي نتحسب له ، ونشفق من مواجهته ، فلم يكن أحد في عائلاتنا يسمع عنها ، باستثناء أولئك المعمرين الذين خدموا في معسكرات الانجليز أثناء الاحتلال ممن كنت أسمع منهم نطق الانجليزية كما ينطقها أهلها ،.
وكان بالمدرسة الإعدادية في قريتنا مدرسان للغة الانجليزية ، رحمهما الله وأحسن إليهما . أحدهما من مدينة أبو تيج [ حوالي 45 كم شمالي قريتنا شطورة ] واسمه / محمد السيد ضاهر ، كان رحيما بنا كل الرحمة ، طيب النفس، أبويَّ التعامل ، حانياً حتى حين يعاقبنا بضرب المسطرة الخفيف ، وكان الثاني من الاسماعيلية ، ولما حدث تهجير سكان محافظات القناة عقب النكسة عاد إلى قريته الأصلية ” الشيخ زين الدين ” المتاخمة لقريتنا شطورة واسمه كمال أبوزيد . وكان شديد الطبع ، عالي الصوت ، عنيفا كل العنف بطلابه لا تفارق عصاه الجريد اليابسة الطويلة يده أينما سار ، ولكنه كان متقنا للغة الانجليزية ، شديد التمكن فيها ، وكنا نسمع أنه خريج جامعة ـ أما أستاذنا ضاهر فهو خريج معهد المعلمين ( قبل ضمه للجامعة ) .
من حسن حظي ، وببركة دعاء الوالدين ، تعلمت اللغة الانجليزية في فصول الأستاذ ضاهر في سنوات الإعدادية الثلاث ، وقد وصفني – رحمه الله – في السنة الأولى الإعدادية بأنني ” أفضل الأولاد نطقا ” في فصلي . مما كوَّن عندي اتجاها إيجابيا نحو تلك اللغة حتى الآن . بعكس حالي مع معلم الرياضيات المرحوم عبد الرحيم العشري الذي ضربني وبعض زملائي ضربا مؤلما شديدا مبرِّحًا ، لا لأننا لم نحل الواجب !! بل لأننا حللناه !! ولكننا وضعنا أسهما ملتوية حول الزوايا ، كما تعلمنا منه ، دون حاجة لوضع تلك الأسهم !! مما كوَّن عندي اتجاها عدائيًّا ثأريًّا نحو مجرد اسم الرياضيات حتى الآن وحتى غد وبعد الغد . !!
وكان علينا أن نقتني للغة الانجليزية كراستين اثنتين ، وهذا- أنذاك – عبءٌ ماديٌّ على الأسر لو تعلمون عظيم !! .
إحداهما تُدعَى كراسة ” الكُمْبْ ! ” أي الإنشاء Composition ، والأخرى تُدْعَى كراسة ” الِإكْس ” أي التطبيقات والتدريبات .Exercise
وكان الأستاذ ضاهر فيما يبدو يملك مكتبة في مدينته : أبوتيج ، فكان يجمع منا قروشا ليشتري لنا بها أوراقا ” دَشْتًا ” مطبوعة بالاستنسل ، في كل واحدة خمسة تدريبات أو أربعة ، علينا أن نحلها ونلصقها في كراسة الإكس ، وكان ، بالمرة ، يشتري لنا الصمغ !!
وقد يتصادف أن يكون على فصلنا : الكُمْب ، وعلى الفصل المجاور: الإكس ، فيحدث بعض الارتباك في الجدول المدرسي !!!!
حتى نسمع وقع أقدام الأستاذ كمال أبوزيد ووقع عصاه فيهرع كل منا إلى مقعده مرتعشًا لا يكاد يُميِّز كُمبًا من إكس !!
وكان الأستاذ ضاهر رحمه الله يُغري ميسوري الحال منا بشراء مُلَخَّص ( = كتاب خارجي !!) اسمه Samy لأن به تدريبات أكثر وامتحانات سابقة ، وكان ثمن “سامي” هذا قد يصل إلى خمسة عشر قرشا ، وإنفاق مثلها آنذاك مع كراستين اثنتين لمادة دراسية واحدة : كارثة مالية لا تقوى عليها غالبية أسرنا .
وكان الأستاذ ضاهر رحمه الله يسافر هذه المسافة ( 45كم) يوميا من أبوتيج إلى شطورة غدوا ورواحا بالقطار ويحمل حقيبة منتفخة بكراريسنا يحملها معه ليصححها في بيته ويأتي بها في اليوم الثاني ، وإلى جانب الكراريس ، ما اشتراه لبعضنا من ملخصات أو صمغ أو أوراق ملونة لتجليد الكراريس . وقد يطلب بعضنا أن يشتري له الأستاذ أساتيك أو علب الوان أو حلاوة طحينية ، فيزداد انتفاخ الشنطة والرجل رحمه الله سمح النفس ، شديد الحنو علينا. !!
وكان الأستاذ ضاهر رحمه الله يعوِّدنا أن يكون معظم الحوار بيننا وبينه في الحصة باللغة الإنجليزية لا العربية . فكان حين يبدأ الحصة يأخذ الغياب لا بالمناداة على الأسماء جميعا كما يفعل بعض المعلمين فيضيع جزء كبير من وقت الحصة . لكنه كان يسألنا :
– هُو إذْ أبسنت توداي ؟ ( من الغائب اليوم ؟ )
فكنا نجيب : سلامة إذ أبسنت توداي !
وكانت جيوب الأستاذ ضاهر واسعة وكثيرة ، وهي جميعا ملأى بالملبّس والطوفي وقطع السمسمية والحمصية والأساتيك وأنصاف أقلام الرصاص والمثلثات والمناقل و” لبابيس ” أقلام الجاف والحبر ، فكان إذا أحسن أحدنا في إجابته وانبسط منه الأستاذ ضاهر ووضع يده في جيبه ، نتوقع أن يفوز بقلم جاف ، فتخرج يد الأستاذ وبها ملبسة ـ أو نتوقع أن يفوز بملبسة ، فتخرج يد الأستاذ وبها ” تُخْ !! ” [ = ثمرة نبق ]
لكن المحسن لا بد أن يثاب ، أيا كان هذا الثواب !!
ولأنني وحيد أسرتي ، لا أخ لي ولا أخت ، فقد رأى والدي الشيخ رحمه الله أن يشتري لي ساعةً أتميز بها بين زملائي ، فطلبت إلى الأستاذ ضاهر أن يخبرني بثمنها فقال لي : إن الساعة التل Tell بجنيهين !! وإن الساعة الجوفيال Jofial بخمسة جنيهات ، فقال لي والدي رحمه الله : اختر ما شئت منهما ، فرغبت في الجوفيال ، فتلقيت من المرحوم الأستاذ ضاهر أول درس خارج تخصصه مازال يلازمني حتى اليوم ، وهو أن العبرة فيما نقتني إنما تكون ” بأداء الوظيفة وليس بالشكل ” ومد يده الكريمة وأراني الساعة التل Tell التي يلبسها متفاخرا بأنها منضبطة ولا تحتاج صيانة وإذا ضاعت فلا تستحق الحزن عليها بعكس الثانية : غالية الثمن .!!
وهكذا … كان لنا معلمون : /مربون/ آباء !!
والآن ، حين أفتش في مكتبتي القديمة ، أعثر أحيانا على كراسة الكُمب ، ولا أرى أثرا لكراسة الإكس ، فلا بد أن أحدا سرقها أو استعارها قبل نصف قرن … ومازلت أحاول تذكر اسمه لأسأله عنها !!
*استاذ أصول التربية وعميد كلية التربية جامعة سوهاج سابقا