الصراط المستقيم
كلمة شيخ الأزهر بالمؤتمر الدولي بأوزباكستان
متابعة /هاني حسبو.
القى فضيلةأ.د/ أحـمَــد الطَّـــيِّب
شَـيْخُ الأزْهَـر الشَّريف
رئيس مجلس حكماء المسلمين
في المُـؤتمر الدولي بأوزباكستان كلمة عن:
الإمــام أبو منصور الماتريـــدي
والتعاليم الماتريدية: الماضي والحاضر
خلال الفترة من: 8 – 10 من رجب سـنة 1441ﻫ
المــــــوافـق: 3 – 5 من مارس سـنة 2020 م
جاء فيها :
بسم الله الرحمن الرحيم
- حضرات السادة العلماء!
- السيدات والسـادة!
- المشاركون الأعزاء!
السَّلام عَليكُم جميعًا وَرَحـْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه .. وبعد/
فيُسـعدني أن أبدأَ كلمتي هـذه بتقـديمِ خالصِ الشُّكْـرِ الجـزيلِ لدولـةِ أوزباكستان: رئيسًا وحكومةً وشعبًا، وأخصُّ بالشُّكر فخامة الرئيس مير ضياييف، رئيس جمهورية أوزباكستان، على دعوتي للمشاركة في هذا المؤتمر الكبيرِ، وعلى كَرَمِ الضيافةِ وحفاوةِ الاستقبال.
وإنَّه لَمؤتمرٌ بالغُ الأهميَّةِ في موضوعِه، وفي سياقِه الضَّروريِّ الصَّحيحِ: زمانًا ومكانًا وغايةً.. وهو أَمارةٌ على فِطنةِ القائمينَ عليهِ وانتباهِهم لضَرُورةِ اكتشافِ الجذورِ، والتنقيبِ في التراثِ العريقِ عن الأُصُـولِ الثابتةِ والقواعدِ الراسـخةِ، واستصحابِها للتدرُّع بها في مُعتَرَكِ النهضاتِ وصِراعِ الحضارات..
إنَّ هذا المؤتمر هو -بامتيازٍ- مؤتمرُ اكتشافِ الذَّاتِ وملامحِ الهُويَّة وقسماتِها، وإزاحةِ الغُبارِ عن الرَّصِيدِ الحضاريِّ، والموروثِ الفِكريِّ والرُّوحيِّ، من عُلومِ العقلِ والنقلِ والذوقِ، بعدَما أَوْشَكَ أن يَنطَفِئَ أوارُه، وتنطمسَ معالمه في فتراتِ ظلامٍ حالكٍ مرَّت ببلادِكم كما مرَّت ببلادِ المسلِمين في كُلِّ قارَّات الدُّنيا.
والذي يُدقِّقُ النظَرَ في حال الأُمَّةِ الإسلاميَّةِ اليومَ – لا يُساوِرُه أدنى شكٍّ في أنَّها تقفُ في مُفتَرقِ طريقَيْن لا ثالثَ لهما: إمَّا التطوُّرُ في إطارِ تأكيدِ الذاتِ والحفاظِ عليها، واتخاذِها مَرجِعًا أوَّلَ لما تَأخُذُ وما تَدَعُ، وإمَّا التِّيهُ والانتحارُ في حالِ إلغاءِ الذاتِ أو الهروبِ منها أو تجاهُلِها.. ولَعَلِّي لا أكونُ مُتَشائمًا لو قلتُ: إنَّ عالَمنا العربيَّ والإسلاميَّ لا يزالُ يُراوِحُ مَكانَه بين هذين النقيضَيْن: لا يحسمُ أمرَه، ولا يعرفُ أين يُولِّي وَجْهَه، رُغم أنَّه تَحرَّرَ من الاستعمارِ منذُ أكثَرَ من نصفِ قرنٍ مَضَى، وتِلكُم فترةٌ كافيةٌ للنقاهةِ واستعادَةِ العافيةِ، والقُدرةِ على اتخاذِ القرارِ وضبطِ الاتجاهِ.
وقد زاد الطِّينَ بلةً طُغيانُ العولمةِ ودعوتُها لصياغةِ العالمِ صياغةً كونيَّةً واحدةً، وتنميطُه في نمطٍ حضاريٍّ واحدٍ «يُمَكِّنُ الأقوياءَ من فرضِ الديكتاتوريَّات اللاإنسانيَّة – فيما يقولُ الفيلسوفُ الفرنسيُّ روجيه جارودي – والتي تَسمَحُ بافتراسِ المُستَضعَفين بذريعةِ التبادُلِ التجاريِّ وحريَّةِ السُّوق» ( ).
ولسنا نُبالغ إن قُلنا: إنَّ العولمةَ ليست إلا نسخةً مُتوحِّشةً، وعهدًا جديدًا من عُهودِ الاستعمارِ «يَشطُرُ العالمَ شِطرَيْنِ: عالَمِ المُنتجِين والمسيطِرين عبرَ الشركات والبنوك والشبكات، وعالَمِ المُستهلِكين للمَأكُولاتِ والمُعلَّبات والمشروبات والصُّوَرِ والمعلوماتِ التي تُفرَضُ عليهم» ( ).. ولم يَنْسَ المُستعمِرون -كالعادةِ- أن يُقدِّمُوا بين يدي «العولمة» نظريَّاتٍ استعماريةً ألبَسُوها ثَوْبَ الفلسفةِ والبحثِ العلميِّ، مثل نظريَّةِ: «صِراع الحضارات»، ونظريَّة: «نهاية التاريخِ»، تَعمَلُ على تزييفِ وَعْيِ الشعوبِ وشَلِّ إرادتِها وتحذيرِها من استعادةِ شخصيَّتِها واكتشافِ ذاتِها وهُويَّتِها، وهذه النظريَّاتُ ليست جديدةً ولا مُستَحدَثة، بل هي خمرٌ قديمٌ يُعَادُ بيعُه في جِرارٍ جديدة، فيما يقولُ المَثَلُ المعروفُ.. فمِثلُ هذه النظريَّات ليسـت –في الحقيقة- إلَّا استِنساخًا للنظريَّةِ العُنصريَّةِ التي سَعَتْ بين يدي الاستعمارِ الأوروبيِّ في القُرُونِ الثلاثةِ الماضيةِ، وأعني بها نظريَّةَ «عِبْءِ الرجلِ الأبيضِ» أو «أمانةِ الرجلِ الأبيضِ»، وتَبِعَتِه أمامَ الله لتعليمِ الذين لم يَبلُغوا مَبْلَغَه في العلمِ والارتقاء، من غيرِ أصحابِ البشرةِ البيضاء.. وفيما عُرِفَ -وقتَها- بنَظريَّة «العُنصريَّة الآريَّة»، وهي نظريَّةٌ ما لَبِثَ البحثُ العِلميُّ أنْ أحالَها إلى مجرَّدِ زعمٍ عُنصريٍّ، وأكذوبةٍ كُبرى على العِلم وعلى التاريخِ. والشيءُ نفسُه يُقالُ على فلسفاتٍ استعماريَّةٍ أُخرى عاصَرْنَاها، ووَعَدَتْنا بالفردوسِ المفقودِ إن نحن أدَرْنا ظُهُورَنا لله، وكفَرْنا به وبرِسالاتِه، ونفَضْنا أيديَنا أو غسَلْنَاها -من كُلِّ مواريثِنا التي أثمَرَتْها الأديانُ- منذُ ثلاثةِ آلافِ عامٍ تقريبًا، واستَبْدَلْنا بها فلسفاتِ الإلحادِ والديالكتيكَ الطبيعيَّ والتاريخيَّ، وخُرافةَ عالمِ الغَيْبِ وفَوْضَى الأخلاقِ، وطَيْشَ الأفكارِ وحُريَّةَ التحلُّلِ من القِيَمِ، وتدميرَ الحدودِ بين الخيرِ والشرِّ، والحَسَنِ والقبيحِ.. وقد جُسِّدَ لنا كُلُّ ذلك في مسرحيَّاتٍ ورواياتٍ وأفلامٍ ومُقرَّراتٍ جامعيَّةٍ في الفلسفةِ والسياسةِ والاقتصادِ.. ونَحمَدُ الله أن امتَدَّ بنا العمرُ لِنَرَى بأُمِّ أعيُنِنا كيف انهارَ المعبدُ على رُهبانِه، دُونَ مُقدَّماتٍ أو أسبابٍ أو عِلَلٍ تُؤدِّي إلى نتائجِها، وتَجِيئ على مِقدارِها.
السَّـادة الحـضـور!
لا يَسبِقَنَّ لأذهانِ حضراتِكم أنَّ هذه المقدِّمةَ التي رُبَّما طالت قليلًا – غريبةٌ على موضوعِ المؤتمرِ، وهو: إمامُ الهدى أبو منصورٍ الماتريديُّ – رضي الله عنه – لأنَّها –في واقع الأمر– تَرِدُ مَوْرِدَ البيانِ والكشفِ عن أهميَّةِ هذا المؤتمرِ، وأنَّه مؤتمرٌ لا تبعثه أريحيَّةُ التكريمِ لأوائلِ الرُّوَّادِ من العُلَماءِ وأئِمَّةِ الفِكرِ، بقَدْرِ ما تبعثُه ضروراتُ الشعوبِ من الأممِ المقهورةِ أو المغلوبةِ على أمرِها، وحَقُّها في عيشٍ آمِنٍ مشتركٍ، وسلامٍ يَعُمُّ الشرقَ كما يَعُمُّ الغرب، كَيْلَا تَتفاقَمَ الأزمةُ ويَرتَدَّ العالَـمُ بأسْرِه إلى عُصورِ ما قَبْلَ التاريخِ. بل الأَحْرَى والأَخْلَقُ بهذا المؤتمرِ أن نَنظُرَ إليه بحُسبانِه ضَوْءًا يَسطَعُ في نهايةِ نَفَقٍ شبهِ مُظلِم، أو مَرْكبًا آمِنًا في بحرٍ مُتَلاطِمٍ الأمواجِ، وذلك من مَنظُورَيْنِ بالغَيِ الدقَّة والأهميَّة:
المنظــور الأول: هو تحـديدُ موقفِ الأمةِ من طُوفانِ الحداثةِ وما بعدَ الحداثة، وتَسلُّطُ رُؤاها وأنظارِها، وبكُلِّ وسائلِ التواصلِ الحديثةِ، على عُقُولِ الصغارِ والكبارِ، بل على طائفةٍ ممَّن يَملِكون التأثيرَ على عُقُولِ الشبابِ، سواءٌ بالكلمةِ المكتوبةِ أو «المتلفَزةِ» على شاشاتِ الفضاءِ، أو عَبْرَ وسائلِ التواصُلِ الاجتماعيِّ.. والأخطَرُ: أنَّ بعضًا مِمَّن يَتزيَّوْنَ بزِيِّنا ويتحدَّثُون بلُغتنا، اختلطت في أذهانِهم أوراقُ «الحداثةِ» في نُسختِها العربيَّة، بأوراقِ دعوةِ التجديدِ أو دعوةِ إصلاحِ الفكرِ الدينيِّ، ونَتَجَ من هذا الخلطِ -المتعمَّدِ أو غير المتعمَّدِ- استباحةُ الحديثِ عن الإسلامِ من غُرَباءَ على عُلومِه النقليَّةِ والعقليَّة، بل استباحةُ التطاولِ -أحيانًا- على أئمَّةِ المسلمينَ وأعلامِهم الأفذاذ.. وليس لهذا الاضطرابِ الذي أَوْشَكَ أن يكونَ «تِيهًا يَتربَّصُ بالأُمَّةِ كُلِّها» إلا مخرجٌ واحدٌ هو «إحياءُ التراثِ»، ودراستُه وتدريسُه في المعاهدِ والجامعاتِ المختصَّةِ، وانتقاءُ ما يُساعِدُنا على نهضةٍ حديثةٍ تجمعُ بينَ قِيَمِ التراثِ والتطوُّرِ الفكريِّ والتقنيِّ.. وهذا أمرٌ يحتاجُ إلى أن يُعقَدَ له أكثرُ من مؤتمرٍ يَضُمُّ جميعَ علماءِ المسلمين للتباحُثِ حولَ كيفيَّةِ الإحياءِ، وتحديدِ معاييرِ «الفَرْزِ» بين ما يُستَدعَى من الأُطُرِ التشريعيَّةِ والقواعدِ الفقهيَّةِ التي تَسمَحُ بتغيُّرِ الصورِ الجزئيَّة وتبدُّلها، وبين ما يَبقَى خاصًّا بزَمَنِه الذي قِيلَ فيه، ولا يُفيدنا استصحابُه في زمَنِنا هذا.. وهنا يكونُ بَعْثُ التراثِ وعقدُ المؤتمراتِ المتخصِّصةِ في مجالِه أمرًا يجبُ تشجيعُه والثناءُ عليه، وشُكرًا مرَّة أخرى لدولةِ أوزباكستان على هذا السَّبْقِ الذي يحقُّ لها أنْ تَفخرَ به، وتعتز.
أمَّا المنظور الثاني: الذي تتبيَّن فيه «قيمةُ هذا المؤتمر» فيَنبُعُ من أنَّه يأتي تعبيرًا عن مذهبِ «أهل السُّنَّة والجماعة» وهو مذهبُ السوادِ الأعظمِ من المسلمين، ويَعني هذا المفهومُ في المقام الأوَّل: الأشاعرةَ والماتريديَّةَ وأهلَ الحديثِ من الأحنافِ والمالكيةِ والشافعيَّةِ والحنابلةِ، وأئمَّةَ علومِ الذَّوْقِ والسُّلوكِ، وأهلَ اللغةِ والبيان، ومن المؤلمِ أن نُشِيرَ -من جديدٍ – إلى ما ابتُلِيت به الأُمَّةُ في الآونةِ الأخيرةِ من اضطرابِ مفهومِ «أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ» في أذهانِ نابتةٍ من أبنائها جعَلُوا منه شارَةً بل عَلَمًا على التشدُّدِ والتطرُّفِ، والغُلُوِّ والتكفيرِ، واستباحةِ الدِّماء، وحَكَمُوا على مَن لا يَعتَقِدُ عقائدَهم بالخروجِ من دائرةِ أهل السُّنَّة والجماعةِ.. ونحن في الأزهرِ نعملُ ليلَ نهارَ على تصحيحِ هذا المفهومِ، وعودتِه إلى دلالتِه الحقيقيَّةِ التي أجمَعَ عليها المسلمون على مدى أكثر من ألفِ عام.
ونحن إذ نَبذُلُ الجُهدَ في التعريفِ بمذهبِ الإمامِ الماتريديِّ الحنفي في بلاد ما وراءَ النهرِ وما جاوَرَها، ومذهبِ مُعاصِرِه الإمامِ الأشعريِّ الشافعيِّ في العِراقِ والشام ومصرَ والمغرب، فإنَّنا نفعلُ ذلك وفاءً للأزهرِ الشريف الذي التحقتُ به عام 1956م من القرن الماضي، ودرستُ في مرحلتَيْه: الابتدائيَّةِ والثانويَّةِ شرحَ الخريدةِ، وشرحَ الجوهرة، وهما كتابان مدرسيَّان في تعليم مذهب أهل الحقِّ.. وفي كلية أصول الدِّين التي التحقتُ بها عام 1965م، نسجنا على المنوالِ ذاتِه في مُقرَّرات علمِ الكلامِ، وسَمِعنا أوَّلَ ما سمعنا في هذه الكليَّة العريقة عبارةَ الإمامِ النسفيِّ التي يَفتتحُ بها العقيدةَ المنسوبةَ إليه. وهي: «قال أهلُ الحقِّ: حقائقُ الأشياءِ ثابتةٌ، والعِلمُ بها مُتحقِّقٌ، خِلافًا للسفسطائيَّة»، وحَفِظنا ما قالَه الشُّرَّاح في بيانِ المراد من «أهلِ الحقِّ»، وأنَّهم الأشاعرةُ والماتريديَّةُ.
وقد كُتِبَ الخلودُ لمذهبِ هذَيْنِ الإمامَيْنِ بسبب أنَّه لم يكن مذهبًا جديدًا اختَرَعه الماتريديُّ أو الأشعريُّ، يميل إلى العقل على حساب النَّص، أو ينحاز لظاهر النص على حساب العقل، وإنما هو مذهب يقرِّر ما عليه أصحاب رسول الله ﷺ، يتمسَّك به ويناضل عنه ويقيم الحجج والبراهين عليه فيما يقول: تاج الدِّين السبكي في طبقات الشافعية.
وأختم بتساؤل قد يبدو سطحيًّا في ظاهره، وإن كان محوريًّا في الواقع ونفس الأمر، وهو: هل الأمة الإسلامية اليوم بحاجة إلى مذهب الإمامين الجليلين: الماتريدي والأشعري ومذهب أهل الحديث؟ والجواب المباشر هو: نعم وألف نعم، بل أذهب إلى أبعد من ذلك لأقول: إنَّه لا يوقِف حمامات الدِّماء التي أُريقَت على مذابح التكفير إلَّا مذهب أهل السنةِ والجماعة. فنحن نعلم يقينًا أنَّ الجماعات المسلحَّة التي تنتسب للإسلام لا ترتكب جرائمَ القتلِ وإراقة الدماء إلا انطلاقا من عقيدة فاسدة تقول: إن مرتكب الذنوب والكبائر كافر ودمه حلال، وإن صلى وصام وقال: إنه مسلم، فكلُّ مُرتكبٍ لكبيرةٍ هو في نظَرِهم كافرٌ، ودمه وماله وعِرضه حلال.. فالتكفير بالكبائر هو بريد استحلال الدِّماء، وهو مذهبٌ دمويٌّ يتستَّر بالدِّين، وهنا نلفت أنظار -غير العلماء والمتخصِّصين- إلى أنَّ المذهب الوحيد، وأكرِّر: الوحيد، الذي لا يكفِّر أحدًا من أهل القِبلة، ولا يُخرج أحدًا من المسلمين من دائرة الإسلام، حتى وإن ارتكب جميعَ الكبائر ومات عليها – إنَّما هو مذهب أهل السنة والجماعة، يقول الأشعريُّ وهو يلفظُ آخر أنفاسه في بغداد: «اشهدوا عليَّ أني لا أُكفِّر أحدًا من أهلِ هذه القِبْلَة، لأنَّ الكل يُشـيرون إلى معبـودٍ واحد، وإنَّما هذا كله اختـلاف عبارات»( ).. والمذهب نفسه نجده عند الإمام الماتريدي، وبصورة موسَّعة تعقب فيها آراء الخوارج والمعتزلة وسائر المكفِّرين بالكبيرة، وفنَّدها عبر ست وخمسين صفحة في الباب الرابع من كتابه الرائع، كتاب التوحيد( )، وهذا هو ما قرَّره رسول هذه الأمة -ﷺ- في بيان صريح واضح وضوح الشمس في رابعة النهار «مَنْ صَلَّى صَلاَتَنَا، وَاسْتَقْبَلَ قِبْلَتَنَا، وَأَكَلَ ذَبِيحَتَنَا، فَذَلِكَ الْمُسْلِمُ الَّذِي لَهُ ذِمَّةُ اللَّهِ وَذِمَّةُ رَسُولِهِ، فَلاَ تُخْفِرُوا اللَّهَ فِي ذِمَّتِهِ» ( ).
وإني لأتساءل: أَلَا يُمثِّلُ مذهبُ الإمام الماتريدي، الذي نلتقي اليومَ لإحياء مدرستِه في سمرقند مسقط رأسه، وفي جوار مثواه الأخير – أَلَا يمثل هذا المذهب طوقَ نجاة لشبابنا الذي انخرط مع المُكفِّرةَ والقَتَلَةِ؟ ويستوجب من الأمة كلها أن تروِّج هذا المذهب الذي يُعبِّر في أمانةٍ وصدق عن روح الإسلام وانحيازه للإنسان، ولحرمة دمه وماله وعِرضه. وألَّا تدَّخر الأمةُ وُسعًا في تدريسه للناشئة ولطلاب العلم، وأن تفسح له ولو مكانًا ضيِّقًا فيما يبثُّه إعلامُها من لقاءات وحوارات.
وأختمُ كلمتي بدعوة الباحثين إلى بذل المزيد من الجهد للكشف عن تراث هذا الإمام العبقري، المتعددِ المواهب والمعارف والعلوم.. وإني لأعتزُّ بأن أقول: إنَّ علماء الأزهر الشريف قدَّموا بعضًا مما يستحقه شيخُنا الماتريدي رحمه الله حيث كُتب عنه في أروقة الأزهر قرابةَ خمسين رسالة جامعية عنه وعن مدرسته الماتريدية، وفي الطريق المزيد إن شاء الله عن هذا الإمام وعن مدرسته في العقيدة والأصول والتفسير والفقه وغيرها.
.. .. ..
شكرًا لحسن استماعكم، والسَّلام عَلــيْكُم وَرَحـْمَةُ اللهِ وبَرَكَاتُه.
شـــيخ الأزهـــر
أحـمـد الطــيب