الفن والثقافة

كنز جدتي

 قصية بقلم / المهندس أيمن سلامة

كانت جدتى رحمها الله كأغلب السيدات فى ذلك الزمن القديم هى (الكبيرة ) للعائلة التى تضم عدة أسر فى منزل واحد، وكان الجميع يدينون لها بالاحترام والطاعة، أما الجد فكان دوره استشارى فقط فى العائلة خاصة وقد تقدمت به السن وأصبح يلزم الفراش اغلب وقته.

كان عمل رجال العائلة ككل العائلات القديمة الكبيرة العدد هو الزراعة وتربيه الحيوانات، أما السيدات فكان عليهن رعاية الصغار و المهام الأخرى بالمنزل، أما الصغار وكنت من ضمنهم فكنا أحيانا نعمل مع الرجال فى الحقول وأحيانا أخرى نلعب فى الحوش الخارجى الكبير خلف منزل العائلة.

كانت جدتى رحمها الله هى الملاذ والملجأ الحصين وقت الشدة للجميع فالكبار يجلسون اليها ليستشيروها فى كل الامور ويستمعون لتوجيهاتها، أما النساء فلا تنتهى معها جلساتهن الخاصة الخافتة الصوت، والتى كانت تنتهى فى بعض الاحيان بتوبيخ وسباب عالى الصوت من جدتى لإحداهن حرصاً منها على تماسك الأسر الصغيرة التى تكون العائلة الكبيرة.

أما الصغار أمثالنا آنذاك فكانت هى الملجأ حين تحدث مشكلة مع الكبار، وبالطبع لم يكن أحدهم يجروء على فعل أى شئ لنا ونحن نحتمى خلف ظهر جدتى، وتغضب الجدة وتصب غصبها على أحدهم اذا حاول ضرب الصغار، وكثيرا ما كنت أسمعها تقول للكبار”أنتم ولادى..لكن الصغار حبايبى”.

كانت لجدتى طقوس غريبه لم أفهمها فى وقتها ولكنى كنت أحب مشاهدتها وهى تقوم بها، فمثلا كانت تحرص كل مساء على الادعية والبخور وتطوف بجنبات البيت وهى تتمتم بالدعاء، وكنت أسالها “لم تفعلين ذلك كل مساء ياجدتى ؟؟” فكانت تقول “عشان اللى ساكنين معانا لا يؤذونا،لازم أحمى كنزى، فكنت أعجب من كلامها وأسالها “هو فين كنزك ده ياجدتى؟؟” فكانت تبتسم ولا ترد .

يوم الخميس له طقوس خاصة أخرى، حيث بعد صلاة العشاء يظهر أمام الباب الشيخ عبدالنبى وهو شيخ ضرير يأتى مستنداً على عصاه مهتدياً بذاكرة عجيبة تحفظ الشوارع الضيقة والبيوت فى القريه، ويقرع الباب منادياً على الحاجة ولاينتظر الإجابه، فهو يعرف طريقه إلى غرفة الضيوف التى يقع بابها قريبا من باب المنزل ويدخل بمفرده ويتخذ جلسته الاسبوعيه المعتاده ويشرع فى تلاوة القران الكريم والأدعية لمدة ساعة تقريبا،وفى تلك الاثناء تكون جدتى قد رتبت له طعام العشاء، وبعده تُدخل النساء اليه كوب الشاى، الذى سرعان ما يتناوله وهو يتجاذب اطراف الحديث مع جدتى وينصرف بعد ذلك، وهكذا يستمر الأمر إلى أن يتم حصد المحصول من الحقول فترسل اليه جدتى كمية من الأرز أو الذرة وهكذا مع كل محصول .

ومرت السنون وكبر الصغار، وتركت القرية وانتقلت الى المدينة مع أسرتى نظرا لطبيعة عمل والدى رحمه الله فى المدينة، ولما كنت مرتبطا جداً بالقرية وجدتى فكنت أعود اليها فى الاجازة الصيفية كل عام، وأراها وقد تقدمت بها السنون ومازالت تمارس طقوسها أو ما تبقى منها، وكنت أجلس اليها كما كنت افعل وانا صغير، وأسالها كل مرة “هو فين الكنز بتاعك ياجدتى” فيكون ردها “بعدين اقولك بس الكلام ده سر بينى وبينك اوعى تقول لحد عليه”.

سافرت للعمل بالخارج لسنوات طويلة، عُدت بعدها لزيارة جدتى، فوجدت الوضع لم يتغير كثيراً فى منزل العائلة حتى بعد أن هجره الجميع تقريباً وتقاسموا فيما بينهم أرض الحوش الخلفى وقاموا بالبناء الحديث عليها، وبرغم ظهور آثار السنين الطويلة على المنزل إلا إنه ظل صامدا كما هو، جلست الى جدتى بعد ماتقدمت بها السنين، ولم تعد قادرة على الحركة إلا بصعوبة بالغة، وتقوم إحدى عماتى بخدمتها، فوجدتها مازالت تصرُّ على أن تقوم بنفسها بطقوسها الخاصة، فقلت لها “ياستى..خلى عمتى تعمل الحاجات دى مكانك” فرفضت وقالت لى “ياابنى كل واحد لازم يحافظ على الكنز بتاعه” فقلت لها ممازحاً “طيب ..ياستى انا عايز كنز زى بتاعك” قالت لى “ياابنى ربنا أعطى كل واحد فينا الكنز بتاعه..بس المهم كل واحد يدور عليه ويلاقيه”.

                        المهندس أيمن سلامة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.