لماذا الآن يا حورية؟ …..رسالة رثاء

كتب/هاني حسبو.
كتب يوسف الدموكي رسالة رثاء للمرأة التي قامت بتربيته والاعتناء به منذ الصغر على منصة x.
وهي رسالة مؤثرة جدا
لماذا الآن يا حورية؟
..
لم تنجب، وكنت ولدها الوحيد، أتيتُها طريدًا، ملاحقًا، في الخامسة عشرة من عمري، قالوا ستبيت من الليلة عندك “عمتك حورية”، كانت صلة القرابة من ناحية أبي وأمي معًا، وكان ذلك نادرًا في عائلتين مختلفتين، ذهبتُ ضالًّا، أخاف أن يتخطفني الناس، أتلفت حولي، خشية مدرعة أو رصاصة، كانت الأمور أكبر من ذلك الطفل عند أولاد الحرام.
..
هناك، في بيتها برفقة زوجها “جدي عبدالستار”، كان يُسمع صوت الإبرة، وقد مضى من الزمان الكثير ولم ينجبا، دخلتُ إليهما كبشيرٍ يزف الخبر إلى سارة، يوم ضحكت، “فبشرناها بإسحاق ومن وراء إسحاق يعقوب”، كان الترتيب المنطقيّ أن يكون الدور على يوسف هذه المرة.
..
ضحكت حورية، ضحكت كثيرًا، تلك الليلة الأولى التي أتيت إليها خائفًا، آوتني، وكانت الساعة بعد منتصف الليل، أعدت لي عشاءً، نادرًا في وقت كهذا، وشربت الشاي معهما، كان كرمها أكبر من تجاوزه، كانت تصب الحنان صبا، الشاي لم يمكن سوى “وِشّ الكوباية”، أما أصله فزاخرٌ بالكثير.
..
في عيونها عرفتُ السر، لم تنجب حورية لأن أمومتها كانت أكبر من أن يتحملها مولود، وكان فيض حنانها أعذب من أن يسعه نهر واحد، وكان قلبها الملائكي أوسع بكثير من أن يختزل في جسد هيّن؛ أتأخر على المغرب فلا تفطر بأول يوم لرمضان قبل أن أظهر، أسهر فلا تنام إلا وقد أعدت لي مؤونة المذاكرة، أصحو فأجد الفطور إلى جواري، أعود فأجدها ساهرة تنظرني.
..
سنون وشهور طوال، كانت خلف الباب، تنتظر دائمًا، أن أطرق البيت بطرقتي التي تعلم منها أنه يوسف، أغيب وأغيب بحكم تغيير المكان، ثم أعود فلا أجد شيئا تغير، باتت تلك الغرفة غرفتي فلا أحد يدخلها بعدي، اشترت لها مفتاحا وقفلًا، وذلك الكوب “مجّ يوسف” كما سمته، لا يشرب فيه أحد غيري، حتى بعد أن سافرت بتسع سنين.
..
كانت بسيطةً، وحبها معقد، حنانها مستحيل الفهم، أي أمٍّ تلك التي بلا ولد؟ كانت أكبر دليل عملي على أن الأمومة غريزة أنثوية، تولد معها، مع حورية، وُلدت الأمومة بطفرة تجعلها أكثر من غيرها مئة مرة؛ كانت أمي -غير حورية- لا تسألني سؤالا واحدا عن حياة مطاردتي وأن في بيت حورية، ربما لو كنت في بيتنا، لسألتني ألف سؤال قلِق.
..
اشترت لي حورية ذات يوم “تُرمسًا” يحتفظ بالحرارة، قالت هكذا لن يبرد الشاي أبدًا، ولن تحتاج أن تغادر مقامك، حينها كان اختراعًا ثوريا لا يستعمله سوى قلة في بلدنا، كانت حورية الأكثر تطورًا بينهم جميعًا، اشترته وأبقته ممتلئًا أبدًا، لا أعرف متى يفرغ ومتى يمتلئ، كان قلبها رسولها الذي لا يكذب خبرًا، ولا يبرح حتى يؤدي أمانته.
..
في تلك الليلة، حين نزلوا بي من فوق السطح، تسعة عشر وحشًا ساقطًا مدججًا بالسلاح بعدد سنوات عمري، وكنت قد بشرت حورية ليلتها بأني نجحت في أول سنة لي بالجامعة بفضل رعايتها لي، تفاديت النظر في عينيها، فشلتُ في الهرب أكثر، رغم أنها قبلها بساعات أرَتني مهربي إذا وقع “الفاس في الراس”، لكن، كان أمر الله مفعولا.
..
نزلت، مكبلًا، بأذرعهم المتضخمة، ضئيلًا بين أسلحتهم وعضلاتهم، وعيون حورية تأسرني بحزنها، لم يبدأ السجن لحظة قبضوا عليّ، بل لحظة وقعت عيني على عينها وهي ملهوفة عليّ، لتزورني في السجن بعد أيام الاختفاء القسري الطوال، وتبكي طويلًا كأن ذنبها اعتقالي، وتبكي طويلا بعد شهور الأسر الطوال كأن حلم حياتها تحرري، وتبكي طويلًا في آخر مكالمة بيننا، بعد تسع سنوات من التغرب في منفاي، كأن حلمها الوحيد الباقي أن تراني، وأكبر مخاوفها -تقول حورية- “خايفة أموت من غير ماشوفك يا حبيبي”.
..
اليوم، أشعر يا حورية أنني فشلت في تحقيق حلمك وأنت التي لم تدعي لي حلما دون تحقيقه بدعائك، كنت أقول “يا أمي” لا أكثر، وتقولين “أنت الحاجة الوحيدة اللي ليا، لما أسمع صوتك أحس الدنيا لسة بخير”، وكان المرض يزدرد جسمك، قطعة قطعة، ولا تقولين شيئًا، وأنتِ العابدة الزاهدة، سوى أن الله لطيف.
..
كان صوتكِ -مجرد صوتك- بوابتي نحو جنة لا أرى آخرها، ولا أخالكِ -يا حبيبتي- سوى “حورية” ضلت طريقها بالسماء قدرًا فوجدت نفسها في الأرض، وهي لا تنتمي إلا إلى الفردوس، الآن تعودين لموطنك، والآن أعود، طريدًا، شريدًا، خائفا.



