الصراط المستقيم

ما حكم الدين فيمن يقول إن 90% من التاريخ الاسلامي مزور؟

 

بسم الله الرحمن الرحيم.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد:

 

إن إطلاق مثل هذا القول الخطير بأن «90% من التاريخ الإسلامي مُزوَّر» هو قولٌ مُجافٍ للحق، غير دقيق، ويحمل في طيّاته دعوى لهدم الدين والطعن في الثوابت. وهي دعوى قديمة متجددة يحملها أعداء الأمة بصور مختلفة؛ مرةً بالطعن في التاريخ، ومرةً بالطعن في الصحابة (كأبي هريرة)، ومرةً بالطعن في العلماء (كالبخاري). وهذه الدعوى الجديدة تحمل الهدف نفسه، ونحذر الأمة منها وممن ينفث فيها سموم أفكاره، وخطر ذلك يكمن فيما يلي:

 

أولاً: خطورة هذا القول وتعارضه مع حفظ الله للدين

هذه الدعوى ليست نقداً تاريخياً، بل هي هدمٌ لأصول الدين؛ فالزعم بأن الغالبية العظمى من تاريخنا مُزوَّرة هو قول يتجاوز النقد التاريخي البريء ليصل إلى هدم أسس الإسلام ذاتها. والسبب في ذلك أن تاريخنا الإسلامي ليس مجرد سردٍ لأحداث سياسية أو اجتماعية، بل هو الوعاء الحافظ الذي نُقلت من خلاله مصادر التشريع الثانية.

 

حفظ السنة النبوية: الأحاديث الشريفة لم تنزل إلينا في كتابٍ مختوم، بل نقلها رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وهم الصحابة الكرام، ثم التابعون، وهكذا جيلاً بعد جيل. هؤلاء الرجال هم جزء لا يتجزأ من هذا «التاريخ». فالطعن في 90% من التاريخ هو بالضرورة طعن في 90% من الرواة، وهذا يؤدي منطقياً إلى إسقاط السنة النبوية بالكلية.

حفظ سيرة خير القرون: النبي ﷺ زكّى قرنه والذين يلونهم بقوله: «خَيْرُ النَّاسِ قَرْنِي، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ، ثُمَّ الَّذِينَ يَلُونَهُمْ» (متفق عليه). فإذا زعمنا أن تاريخهم مُزوَّر، فنحن نكذّب شهادة النبي ﷺ لهم بالخيرية، ونتهمهم زوراً وبهتاناً بأنهم كانوا أمةً كاذبةً ومزوِّرة، وهذا طعن في الدين نفسه.

 

هدم الثقة في حفظ الله للدين: الله تعالى تكفّل بحفظ دينه فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (سورة الحجر، الآية 9). وحفظ الذكر (القرآن) يقتضي حفظ السنة التي تبيّنه وتفصّله، فكيف يُحفظ القرآن وتُضيَّع السنة التي تشرحه؟ هذا الزعم يصطدم مباشرةً مع وعد الله، ويشكك في كمال حفظه لدينه.

 

ثانياً: الجهل المطبق بالمنهج العلمي الفريد لعلماء المسلمين

هذه الدعوى تتجاهل تماماً واحداً من أعظم الإنجازات الحضارية للأمة الإسلامية، وهو المنهج العلمي الدقيق الذي وضعه علماؤنا، خصوصاً المحدثين، لتمحيص الروايات.

 

علم الرجال (الجرح والتعديل): أسس علماؤنا علماً كاملاً لدراسة حياة كل راوٍ في سلسلة الإسناد من حيث عدالته وضبطه وصدقه وذاكرته، فكانوا يفرّقون بين الثقة والضعيف، والصادق والكاذب. وهذا العلم بمثابة «مصفاة» دقيقة لا تسمح بمرور الروايات المكذوبة.

 

علم مصطلح الحديث: وضعوا قواعد صارمة للحكم على الحديث، فقسموه إلى صحيح وحسن وضعيف وموضوع… إلخ، ولم يكونوا يقبلون أي رواية ما لم تستوفِ شروطاً قاسية تتعلق باتصال السند وعدالة الرواة وضبطهم وعدم وجود شذوذ أو علة قادحة.

الرواية بالأسانيد: حتى المؤرخون الكبار، مثل الطبري وابن كثير، عندما كانوا يذكرون روايات تاريخية كانوا غالباً ما يذكرون أسانيدها، ليتركوا الحكم عليها للمختصين. وهذا دليل أمانة علمية، وليس قبولاً بكل ما يُروى.

 

فالقول بأن 90% مُزوَّر هو إغماض للعين عن هذا الصرح العلمي الشامخ الذي لا يوجد له نظير في أي أمة أخرى.

 

ثالثاً: استهداف الرموز هو استهداف للرسالة (لماذا أبو هريرة والبخاري؟)

الهجوم ليس عشوائياً، بل هو قصفٌ مركّز على الركائز التي تحمل بناء السنة النبوية.

 

استهداف أبي هريرة رضي الله عنه: لم يختاروه عبثاً؛ فأبو هريرة هو «حافظ الأمة» وأكثر الصحابة رواية للحديث. الطعن في صدقه وأمانته ليس طعناً في شخصه، بل هو محاولة بائسة لحذف أكثر من خمسة آلاف حديث بضربة واحدة. إنه استهداف لـ«خزينة السنة النبوية» في صدر الصحابة، فإذا نجحوا في إسقاط الثقة به فمن يسلم بعده؟

 

استهداف الإمام البخاري وصحيحه: الإمام البخاري ليس مجرد عالم، بل هو رمز «الدقة والتحقيق»، وكتابه «صحيح البخاري» ليس مجرد كتاب حديث، بل هو «معيار الصحة» الذي أجمعت الأمة على قبوله. الطعن فيه هو محاولة لتحطيم هذا المعيار وإغراق الأمة في بحر من الشك والفوضى، بحيث لا يعود هناك شيء يمكن الوثوق به. فإذا كان أصح كتاب بعد كتاب الله مطعوناً فيه، فماذا بقي؟

 

إنها استراتيجية واضحة: لإسقاط البناء، اضرب الأعمدة الحاملة له.

رابعاً: الحكم الشرعي على قائل هذا الكلام

يختلف الحكم باختلاف قصد القائل ومراده:

 

1- إن كان يقصد الطعن في الدين والتشكيك في ثوابته (القرآن والسنة): فهذا قول خطير جداً، وقد يوصل صاحبه إلى الكفر والعياذ بالله؛ لأنه يهدم أصول الدين، ويشكك في حفظ الله له، ويتهم خير الأمة بالكذب.

 

2- إن كان يقصد أن الروايات التاريخية (غير المتعلقة بالعقيدة والأحكام) فيها الكثير من المبالغات والأخبار الضعيفة: فهذا الكلام، وإن كان فيه مبالغة فاحشة في النسبة (90%)، إلا أن أصل الفكرة مقبول؛ فكتب التاريخ تحتوي بالفعل على روايات ضعيفة أو موضوعة، ولكن المنهج الصحيح هو تمييزها ودراستها، لا رفض التاريخ كله.

 

3- إن كان يردد هذا الكلام جهلاً أو تقليداً لغيره دون فهم لخطورته: فهذا يجب أن يُنصح ويُعلَّم بلطف وحكمة، ويُبيَّن له عظمة المنهج العلمي عند المسلمين وخطورة التعميم، وأن الواجب هو التثبت قبل إطلاق الأحكام. قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ﴾ (سورة الحجرات، الآية 6).

 

خامساً: واجبنا العملي كمسلمين في مواجهة هذه الهجمة

أمام هذا الفكر الهدّام لا يكفي الرفض القلبي، بل يجب أن نتسلح بما يلي:

1- تعزيز اليقين والثقة: يجب أن نثق في ديننا وفي وعد الله بحفظه، فهذا اليقين هو الدرع الأول الذي يحمينا.

 

2- معرفة قدر أعلامنا: علينا أن ندرس سير هؤلاء الأئمة العظام والصحابة الكرام، لنعرف فضلهم والجهد الجبار الذي بذلوه في خدمة هذا الدين؛ فمن يعرف سيرة البخاري ورحلاته، أو ورع أبي هريرة وزهده، يستحيل أن يصدق فيهما طعناً.

 

3- التسلح بالعلم المنهجي: لا بد من تعلم أساسيات علوم الحديث ومصطلحاته ولو بشكل مبسط؛ فهذا العلم يعطي المسلم «أدوات التفكير النقدي» الصحيحة التي تمكّنه من تفنيد الشبهات بنفسه.

 

4- الرجوع إلى أهل الاختصاص: عند سماع أي شبهة، يجب ألا نتركها تتفاعل في عقولنا، بل نسارع إلى سؤال أهل العلم الراسخين الموثوقين؛ فهم أطباء القلوب والعقول.

 

5- نشر الوعي بثقة: يجب ألا نكون في موقف المدافع المنكسر، بل علينا أن نتحدث بفخر عن تاريخنا ومنهج علمائنا، ونبيّن للعالم عظمة هذا التراث الذي لا يضاهيه تراث.

الخلاصة:

إن دعوى تزوير 90% من تاريخنا، وما يتبعها من طعن في رموزنا كأبي هريرة والبخاري، ليست بحثاً عن الحقيقة، بل هي معاول هدم تستهدف أساس الإسلام الثاني (السنة النبوية). ومواجهتها تكون بالوعي واليقين والعلم والاعتزاز بديننا ورجالاته العظام الذين كانوا سبباً، بعد الله، في وصول هذا النور إلينا صافياً نقياً.

 

أسأل الله أن يثبتنا وإياك على دينه، وأن يجعلنا من حماة سنة نبيه ﷺ.

مختارة من صفحة دار الإفتاء الإلكترونية على فيسبوك.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى