مبدأ “التَّعايش” فى الإسلام
كتب محمد بهي
اقتضت المشيئة الإلهية أن يكون الإسلام خاتم رسالات الله عز وجل لأهل الأرض؛ ومن ثمَّ وجب أن تعُم هذه الرسالة الخاتمة كافَّة البشر، وبهذا الاعتبار أصبح الإسلام دينًا عالميًّا، وصار الناس جميعًا أمَّةً لدعوته، مُخاطبين بهديه وشريعته، وإلى هذا المعنى يشير البيانُ القرآنيُّ الحكيم في قول الله تعالى: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا﴾ [الأعراف: 158]، وقوله تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا﴾ [سبأ: 28].
ومما يدلُّ دلالةً قاطعةً على وجود مبدأ التعايش السلمي في الإسلام؛ أنه لم ينكر الأديان السماوية التي سبقته، بل أوجب على أتباعه الإيمان بجميع كتبهم ورسلهم، وعدم التفرقة بينهم؛ مصداقًا لقول الله عز وجل: ﴿آمَنَ الرَّسُولُ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لَا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ [البقرة: 285]، كما أن تنوع الشرائع الدينية من مقتضى المشيئة الإلهيَّة التي لا تتبدل ولا تتحول؛ تصديقًا لقول الله تعالى: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاجًا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً﴾ [المائدة: 48]، ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ۞ إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ﴾ [هود: 118-119].
إنَّ المقاصد العليا للإسلام التي تتمثل في عبادة الله عز وجل، وتزكية النفس، وعمارة الأرض، هي بمثابة الأساس الإيماني، لدعوة دائمة للتَّعايش السلمي مع غير المسلمين؛ وفي هذا المعنى يقول العلامة الأستاذ الدكتور علي جمعة عضو هيئة كبار العلماء ومفتي الجمهورية السابق في كتابه “النماذج الأربعة من هدي النبي صلى الله عليه وآله وسلم في التعايش مع الآخر” (ص: 6، ط. دار الفاروق): [إن الإسلام دعانا إلى التعايش السلمي مع الآخرين حتى يؤدي بدوره إلى تبادل المصالح والأفكار والمنافع وتقوية العلاقات مع الآخر، وقد كان الأمر على هذا منذ فجر الإسلام بين المسلمين وغيرهم؛ حيث جعل الإسلام علاقة المسلمين بغيرهم قائمة على أُسس إيمانية مبنية على قيمة السلام، وبعيدة عن صفة العنف والطغيان] اهـ.
وإذا نظرنا إلى مفهوم التعايش من منظور الإسلام فيما يتعلق باليهود والنصارى على وجه الخصوص، نجده ينطلق من قاعدة عقائدية وجذور إيمانية، كما نلاحظ أن الإسلام يولي عناية خاصة للتعايش مع اليهود والنصارى عن سائر البشر؛ لكونهم أهل إيمان بالله عز وجل، وعلى هذا الأساس فإنَّ الإسلام بمفهومه الحضاري يستوعب كلَّ إنسانٍ ليتعايش معه، وقد طبق الصحابة رضي الله عنهم ذلك في البلاد التي قَدِموا إليها، واستطاعوا غرس هذا المفهوم بوضوح.
ولعل من أبرز صور البرِّ بأهل الكتاب ما أوجبه الله تعالى على المسلمين ورغَّبهم فيه؛ قال تعالى: ﴿لَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ [الممتحنة: 8]، وكذلك قوله عز وجل: ﴿الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّبَاتُ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ [المائدة: 5]، فإن الأحكام الواردة في هاتين الآيتين الكريمتين، والتي تتعلق ببر أهل الكتاب، يظل العمل بمقتضاها ساريًا عبر العصور والأزمان؛ فمن المقرر أن “العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب”.
وليس هناك أبلغ وأوفى بالقصد من أن الإسلام أحلَّ للمسلمين طعام أهل الكتاب، كما أحلَّ لهم الزواج من نسائهم؛ وهل هناك أسمى وأرقى صورة للتعايش السلمي والتواؤم الحميم، من أن يكون لأولاد المسلم أمهات وأخوال وخالات وأجداد من اليهود والنصارى؟!