الفن والثقافة

مجرد جسد

قصة قصيرة بقلم / المهندس أيمن سلامة

بينما كنت أعبر الطريق متجهاً إلى منطقة السوق فى مدينتنا الصغيرة , إستوقفنى أحد الأصدقاء القدامى القليلين الذين مازالو يعيشون فى مدينتنا ولم يرتحل منها كحال معظم زملاء الزمن الجميل , وقد أصرَّ صديقى على أن يصحبنى إلى المقهى القديم الذى نرتاده , ليستشيرنى فى بعض الأمور الفنية الهندسية الخاصة بمنزله .

تركنى صديقى بعد ما وصلنا إلى المقهى ليلقى التحية على بعض بلدياته القادمين من قريته لبعض شئونهم بالمدينة , فجلست إلى أقرب منضدة خالية , أنتظر عودة صديقى التى طالت بعض الشئ , وأثناء ذلك وقع نظرى على رجل غريب الهيئة يبدو فى العقد السادس من عمره يجلس وحيداً رث الثياب وشعره متطاير وقد كساه البياض ولحيته غير مرتبة , الأمر برمته قد يبدو عاديا للبعض , ولكن ما استرعى انتباهى هو أنه يدخن السجائر بشراهة عجيبة ولا يكاد يصبر أن تنتهى السيجارة التى فى يده بل يسرع فى اشعال اخرى , وهكذا حتى قاربت علبة السجائر التى أمامه على المنضده على نهايتها .

أخذت أتأمل المشهد فالرجل لا يتكلم ولا يلتفت لأحد بل ينظر إلى الارض ويتمتم ببعض الكلمات الغير مفهومة , ويسابق الزمن فى سرعة الإنتهاء من علبة السجائر , تركت مقعدى وجلست الى منضدة أخرى أقرب بجواره لأرى الرجل عن قرب , وقطع تأملى للمشهد صديقى الذى حضرت معه إلى المقهى وقد علا صوته ينادينى ولكنى أشرت له لكى يأتى إلى المكان الذى انتقلت إليه , وعندما رأى الرجل الذى أنظر اليه , نظر إلىّ قائلا بصوت منخفض .. إنت مش عارف الرجل ده مين ؟ فقلت.. لأ.. مين ده ؟ فقال لى.. ده فلان إللى كان زميلنا فى المدرسة الثانوية .. مش فاكره ؟ وأخذت أعتصر ذاكرتى الضعيفة لأتذكره .دون جدوى , فقلت له.. الحقيقة.. شكله مش غريب على  ..لكن ايه حكايته ؟ فقال صاحبى..الله يكون فى عونه.

بعد فترة صمت قصيرة , قلت لصاحبى تعال نسلم عليه , واقتربنا منه أهلا.. فلان .. أخبارك ايه  ؟؟ فاكرنا ؟؟ و تعجبت منه فقد تذكرنا فورا , بل أكثر من ذلك فقد ذكر إسمينا كاملين , وإن كان كلامه متقطع وصوته خافت وعيناه مازالتا تنظران إلى الارض وكأنه يبحث عن شئ ما , ولم  أتـنبه الى محاولات صديقى وهو ينبـهنى إلى ضرورة إنهاء اللقاء وألا أطيل معه فى الحديث , وسألته مرة اخرى إنت بشتغل فين دلوقت وأخبار الدنيا معاك إيه ؟؟ وهنا تغير وجه الرجل وأخذ ينظر إلىّ بحده , وقال..موجها كلامه  لى..إنت مين ؟ أجبته مندهشاً من تغير حاله .. أنا فلان..أنا لسه حالا.. بتكلم معاك وقلت لى إسمى بالكامل , ولكنه إستمر يكرر السؤال بشكل عصبى ولا ينتظر إجابة , بل تملكته رعشة فى يده وقد بدأ صوته يعلو وإن كان مازال متقطع ,  وتجمد فى مكانه ولا يتوقف عن تكرار السؤال و النظر إلى الارض.

صحبنى صديقى من ذراعى بسرعه من أمامه , وذهبنا نجلس بعيداً عنه وهو مازال على حاله , والغريب أن جميع من حوله لم يلتفتوا اليه وكأن الجميع إعتادوا منه على هذا التصرف , وعلمت بعد ذلك أن حياته توقفت عند حدٍ معين إثر حادثة مروعة أودت بحياة أُسرته كلها وتركته وحيداً , وصارت حالته تنحدر سريعًاً حتى وصلت إلى الحالة التى رأيته عليها  , فهو يرفض أن يستمر فى الحياة بعدما ذهبوا وتركوه وحيداً , كما يرفض أن يسأله أحد عن حياته الآن .

المسكين لم يعد يرى حياته بعد ما فقد حياته معهم ,  لقد توقفت حياته لحظة أن تركوه ورحلوا , لقد تركوه بلا عقل, و بلا روح , مجرد جسد غير عابئ بالحياة .

مجرد جسد 2
                        المهندس أيمن سلامة

 

Related Articles

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.