مصر بين ثوابت التاريخ وضغوط اللحظة
إرادة المصريين ضد تهجير الفلسطينيين.. قرار لا يقبل المساومة

بقلم / مدحت سالم
على مدار التاريخ، لم تكن مصر يوماً وطناً يقبل المساومات في القضايا المصيرية، ولم تكن أبداً دولة تتنازل عن مبادئها تحت أي ظرف. فمصر ليست رقماً هامشياً في معادلات السياسة الإقليمية أو الدولية، ولا يمكنها أن تكون متفرجاً على أحداث تصوغ مستقبل المنطقة بما يتناقض مع موروثها الحضاري والتاريخي. واليوم، في ظل ما يتعرض له الشعب الفلسطيني من تهجير قسري ومحاولات لإعادة تشكيل الخريطة السكانية وفق أجندات لا تخفى على أحد، تقف مصر عند مفترق طرق جديد بين الضغوط الخارجية وثوابتها الوطنية التي لا تقبل المساومة.
إن الحديث عن تهجير الفلسطينيين من أرضهم ليس مجرد أزمة إنسانية أو سياسية، بل هو اعتداء صارخ على جوهر القضية الفلسطينية وحق الشعب الفلسطيني في أرضه. وهو سيناريو يحمل في طياته تهديداً مباشراً للأمن القومي المصري، إذ إن مصر تدرك تماماً أن أي محاولة لفرض هذا المخطط ستكون لها تداعيات كارثية على استقرار المنطقة، ولن تكون مصر بمنأى عنها.
التاريخ يشهد: مصر حامية العروبة ودرع القضية الفلسطينية
“إن القضية الفلسطينية ليست مجرد قضية شعب يعيش على أرضه، وإنما هي قضية كل عربي يحمل في قلبه ضمير الأمة”، هكذا قال الزعيم الراحل جمال عبد الناصر، ليؤكد أن فلسطين ليست شأناً فلسطينياً خالصاً، بل قضية تتصل بأمن الأمة العربية ككل، وعلى رأسها مصر.
لم تكن مواقف مصر تجاه القضية الفلسطينية يوماً مواقف ظرفية أو خاضعة لمعادلات المصالح الآنية، بل كانت مواقف ثابتة ومتجذرة، دفعت مصر في سبيلها الكثير من الدماء والتضحيات منذ نكبة 1948 مروراً بحروب 1956 و1967 و1973، حيث كانت مصر حائط الصد الأول أمام محاولات تصفية القضية الفلسطينية.
واليوم، في ظل المتغيرات الراهنة، لا يمكن أن تكون مصر طرفاً في أي معادلة تهدف إلى تهجير الفلسطينيين أو تفريغ الأرض الفلسطينية من سكانها، لأن ذلك ليس فقط خيانة للحقوق التاريخية للشعب الفلسطيني، بل أيضاً تهديد مباشر للأمن القومي المصري، إذ إن أي تغيير ديموغرافي قسري في فلسطين ستكون له انعكاسات لا يمكن التنبؤ بعواقبها على مصر والمنطقة.
الضغوط السياسية: مصر في مواجهة الإملاءات الدولية
إن الضغوط التي تُمارس اليوم على مصر للقبول بمخطط تهجير الفلسطينيين ليست وليدة اللحظة، بل تأتي ضمن محاولات مستمرة لإعادة تشكيل الخارطة السياسية للمنطقة بما يخدم أجندات معينة. وكما قال ونستون تشرشل: “التاريخ يكتبه المنتصرون، لكن الشعوب تفرض إرادتها إذا امتلكت العزيمة”، فإن مصر ليست مجرد متلقٍ للقرارات، بل هي لاعب رئيسي في رسم مستقبل الشرق الأوسط.
ورغم الضغوط الاقتصادية والتحديات السياسية، فإن مصر تدرك أن قبولها بهذا المخطط يعني فتح الباب أمام سيناريوهات أشد خطورة، تبدأ بتهجير الفلسطينيين، لكنها لن تنتهي عند ذلك الحد، بل قد تؤدي إلى تفكيك الكيانات الوطنية وإعادة تقسيم المنطقة وفق مصالح القوى الكبرى.
لقد حذر المفكر الفرنسي ريجيس دوبريه من هذا السيناريو قائلاً: ((إن العالم العربي إذا فقد قضيته المركزية، فإنه يفقد بوصلته، ويصبح لقمة سائغة في يد الطامعين ))ومصر تدرك هذه الحقيقة جيداً، لذا فإنها ترفض أن تكون شريكاً في أي سيناريو يقوض الحق الفلسطيني في أرضه.
التهجير القسري: جريمة دولية لا يمكن تبريرها
وفق القانون الدولي، فإن أي محاولة لتهجير السكان قسراً تعتبر جريمة حرب تستوجب المساءلة. وقد نصت المادة 49 من اتفاقية جنيف الرابعة على أن (( النقل القسري الجماعي أو الفردي للأشخاص المحميين، أياً كانت دوافعه، محظور تحت أي ظرف من الظروف )) .
وبالتالي، فإن أي محاولة لفرض هذا المخطط لن تكون مجرد انتهاك سياسي، بل هي جريمة تستوجب الرفض القاطع من المجتمع الدولي، وهو ما تؤكده مصر في مواقفها الدبلوماسية، إذ لم تكتفِ برفض التهجير خطابياً، بل اتخذت مواقف حازمة لمنع تنفيذه.
الأمن القومي المصري: خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها
إن قبول مصر بتهجير الفلسطينيين لا يعني فقط التفريط في الحقوق الفلسطينية، بل هو تهديد مباشر لأمنها القومي، إذ إن أي تغيير في التركيبة السكانية لغزة أو الضفة الغربية ستكون له تداعيات استراتيجية عميقة على الأمن المصري.
وقد أكد الرئيس الراحل أنور السادات هذه الحقيقة عندما قال: (( إن أمن مصر يبدأ من حدودها الشرقية، وأي مساس باستقرار هذه الحدود هو مساس مباشر بأمننا القومي )) واليوم، في ظل الأوضاع الراهنة، فإن مصر تعي جيداً أن السماح بتهجير الفلسطينيين قد يؤدي إلى تحول الصراع الفلسطيني الإسرائيلي من صراع على الأرض إلى صراع دائم على الهوية، وهو ما سيجعل من سيناء ساحة محتملة لتداعيات هذا التغيير، وهو أمر لا يمكن لمصر القبول به تحت أي ظرف.
إرادة الشعب المصري: رفض قاطع لأي تنازل
ليس غريباً أن نجد اليوم إجماعاً شعبياً مصرياً رافضاً لأي محاولة لفرض مخطط التهجير، فالشعب المصري الذي خرج في مظاهرات دعم القضية الفلسطينية على مدار العقود الماضية، والذي قدّم الشهداء في معارك الدفاع عن الأرض العربية، لا يمكن أن يقبل بأن يكون طرفاً في تصفية القضية الفلسطينية.
وقد قال الفيلسوف جان جاك روسو: (( عندما يرفض الشعب الانصياع، فإن أي قوة في العالم لن تستطيع إجباره على غير إرادته ))وهذه هي الحقيقة التي يعيها الجميع، فإرادة المصريين ليست قابلة للمساومة، ولا يمكن لأي طرف أن يفرض عليهم واقعاً يتناقض مع قناعاتهم التاريخية.
ختاماً مصر كما كانت وكما ستبقى
إن مصر التي كانت دائماً في مقدمة المدافعين عن الحقوق الفلسطينية، والتي رفضت طوال عقود أي محاولات لتصفية القضية، لن تكون اليوم طرفاً في معادلة تهدف إلى محو فلسطين من الخريطة.
لقد قال الزعيم الصيني ماو تسي تونغ: (( الضغط قد يُنتج الألماس، لكنه لا يغيّر طبيعة الصخر الصلب ))ومصر اليوم، رغم كل الضغوط، تظل ثابتة في موقفها، مدركة أن التنازل عن المبادئ يعني فتح الباب أمام تنازلات أخرى لا تنتهي.
وعليه، فإن موقف مصر من تهجير الفلسطينيين ليس موقفاً قابلاً للتفاوض، وليس خاضعاً لأي مساومات، بل هو موقف مبدئي نابع من ثوابت لا تقبل التشكيك، وإرادة شعب لا يمكن كسرها، ودولة تدرك أن صلابتها اليوم هي التي سترسم ملامح مستقبلها ومستقبل المنطقة بأكملها.
مدحت سالم
كاتب وباحث