مفهوم الكون الكبير.. (13) عن الكرسي واللوح المحفوظ

بقلم: د.سعد كامل 

حالة التفكر:

باستمرار حالة التفكر حول مفهوم الكون الكبير، يستشعر كاتب هذه السطور يوما بعد يوم، بل فكرة بعد فكرة أو خاطرة بعد خاطرة… يستشعر عظمة المكونات الكبيرة في هذا الكون الكبير، فالمسافات الشاسعة بين نواة الذرة في كل العناصر وبين مدارات الإلكترونات تعتبر على مقياس ذرات العناصر المتعددة، تعتبر مسافات هائلة بالنسبة لأحجام مكونات كل نواة، وبالنسبة لأحجام تلك الأنوية، وكذلك بالنسبة لأحجام الإلكترونات فائقة الدقة وغيرها من الجسيمات الذرية… وإذا انتقلنا إلى أجسام الكائنات الحية نتوقف كثيرا عند معلومة شديدة الغرابة وهي أننا لو ألغينا تلك المسافات بين مكونات الذرات في جسم الإنسان مثلا فسوف يصبح حجم ذلك الإنسان مثل حجم رأس الدبوس!!

أما إذا نظرنا إلى المسافات الهائلة بين الأجرام السماوية فسوف نلاحظ أيضا المسافات التي تحسب بملايين أو مئات الملايين من الكيلومترات بين الشمس وبين ما حولها من كواكب المجموعة الشمسية، ثم نجد المسافات بين النجوم أكثر اتساعا  وتباعدا فتقاس بعشرات آلاف ملايين الكيلومترات أو بالسنوات الضوئية (وهي المسافة التي يقطعها الضوء في سنة كاملة بسرعته التي تساوي تقريبا 300 ألف كيلومتر في الثانية)، وهكذا تزداد المسافات بين المجرات فتصل إلى مئات ملايين السنوات الضوئية…. فكم هو هائل ذلك الكون العظيم؟ وكم هي رحمة وعظمة الخالق تبارك وتعالى في جعل تلك المسافات الهائلة على جميع المقاييس محسوبة بدقة تجعل الكون يسير في مسارات عديدة لا تتقاطع فيستقر ذلك الكون العظيم الذي سخره المولى عز وجل بكل ما فيه لذلك الإنسان الضعيف الذليل الذي لا يفتأ يحتاج في كل لحظة إلى عون ورعاية الخالق العظيم سبحانه وتعالى.

وهكذا أيها القارئ الكريم، فأحجام مكونات الكون الهائلة أيضا تضاف إلى المسافات الكونية الواسعة فتجعلنا نستشعر بقوة وعظمة ذلك البنيان الكبير للكون الكبير، ومن ثم نتيقن من عظمة الخالق سبحانه وتعالى، وسعة علمه عز وجل، وبذلك نستشعر معاني الأسماء الحسنى لله تبارك وتعالى التي نعيش في كنفها وتحيطنا بالرعاية وتمدنا ليل نهار بأسباب الخير منه عز وجل… ومن صور العظمة والدقة والإتقان في الكون الكبير ما ذكرناه في المقال السابق من هذه السلسلة كمقارنة بسيطة بين أقطار وحجوم مكونات الكون الكبير (جدول 1) معبرا عنها بوحدة المسافات الكونية المستقاة من الحديث الشريف، ووحدة الحجوم الكونية الناتجة عنها، وقد استعرض المقال السابق بعض الخواطر حول العرش المجيد، واستكمالا نناقش اليوم بعض النصوص الواردة حول اثنين من المكونات الكبرى للكون الكبير وهما: الكرسي واللوح المحفوظ:

 

جدول (1): ((لو كان الجدول غير ظاهر، نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))

الكرسي:

جاء في سورة البقرة قوله تعالى: (… وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَا يَئُودُهُ حِفْظُهُمَا وَهُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255)) فهذه هي أعظم آية في القرآن الكريم، وقد ذكر مختصر تفسير ابن كثير ذلك بقوله: “روى الحاكم عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سورة البقرة فيها آية سيدة آي القرآن، لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي))، وقد رواه الترمذي ولفظه: ((لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة، وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي))”، وقد أورد التفسير عدة أحاديث حول فضل آية الكرسي، فهذه أيها القارئ الكريم هي آية الكرسي الذي أورد مختصر تفسير ابن كثير عنه ما يلي:

-(كرسيه) عن ابن عباس قال: “علمه، وقال آخرون: الكرسي موضع القدمين” رواه ابن جرير.

-وعن ابن عباس قال: “سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن قول الله عز وجل: (وسع كرسيه السماوات والأرض) قال: ((كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره إلا الله عز وجل))” رواه ابن جرير.

-وقال السدي: “الكرسي تحت العرش” رواه ابن جرير،

-وقال الضحاك عن ابن عباس: “لو أن السماوات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة” رواه ابن جرير.

-وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ما السماوات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبع ألقيت في ترس)) رواه ابن جرير.

-وقال أبو ذر: “سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض))” رواه ابن جرير.

-وعن أبي ذر الغفاري: “أنه سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن الكرسي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفسي بيده ما السماوات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة))”.

-وعن عمر رضي الله عنه قال: “أتت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت: ادع الله لي أن يدخلني الجنة. قال: فعظم الرب تبارك وتعالى، وقال: ((إن كرسيه وسع السماوات والأرض وإن له أطيطا كأطيط الرحل الجديد من ثقله))”.

-وعن الحسن البصري، أنه كان يقول: “الكرسي هو العرش”. والصحيح أن الكرسي غير العرش، والعرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار.

ونقل ابن كثير في البداية والنهاية ما أخرجه ابن جرير، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن السدى قال: (إن السموات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش وهو موضع قدميه)، ورواه أيضا البيهقي في الأسماء والصفات كما ذكر السيوطي في الدر المنثور.

فهذه أيها القاريء الكريم هي بعض الآثار الواردة حول معنى الكرسي وعلاقته بما هو أصغر منه في الكون، وكذلك علاقته بما هو أكبر منه في الكون: فالكرسي بالنسبة للعرش كحلقة في صحراء كبيرة، والسماوات السبع والأرضين السبع بالنسبة للكرسي كحلقة في صحراء كبيرة.

ضخامة مكونات الكون الكبير العليا

إن الذي يتمعن في الأرقام الواردة في الجدول رقم (1) يتضح له ضخامة مكونات الكون الكبير العليا بالنسبة للمكونات السفلى:

وتجدر الإشارة هنا إلى أن مقارنة الحجوم تختلف عن مقارنة الأقطار، فاالفارق في الحجوم قد يكون صغيرا كلما تقاربت الأقطار نسبة إلى وحدة المسافات الكونية المذكورة أعلاه، بينما يكون ذلك الفارق كبيرا جدا إذا تضاعفت قيمة الأقطار.

كما يظن كاتب هذه السطور أن وصف النبي صلى الله عليه وسلم أن حجم كل جزء من هذا الكون الكبير بالنسبة لما فوقه يعتبر حلقة في فلاة، فإن ذلك الوصف محتمل أن يكون مبنيا على رؤية القطعة السفلية من الكون من فوق القطعة الأعلى منها ((مثلا: الناظر إلى السماء الأولى من أعلى السماء الثانية يرى السماء الأولى حلقة في فلاة نسبة على السماء الثانية))، فنحن نرى الشمس قرصا صغيرا في حين أنها أكبر من الأرض 1.3 مليون مرة، لكن تظهر الشمس لنا صغيرة لأنها تبعد عنا 150 مليون كم، وحيث أن المسافة بين كل سماء وسماء تقاس بآلاف الملايين من السنوات الضوئية فذلك يوضح كيف تبدو السماء السفلى أصغر بكثير من السماء الأعلى بسبب المسافات القطرية الهائلة، والله أعلى وأعلم.

اللوح المحفوظ:

جاءت الآيات القرآنية الكريمة والأحاديث النبوية الشريفة في وصف اللوح المحفوظ كأحد المكونات الأساسية والمخلوقات العظيمة في الكون، فاللوح المحفوظ هو سجل يضم ما شاء الله تعالى من كلماته، ويضم أقدار الخلائق من بدء الخلق إلى يوم الدين، وإلى ما شاء الله من شيء بعد، ويتفاوت ذكر اللوح المحفوظ في هذه الآيات وتلك الأحاديث بين التصريح المباشر بذكره، وبين التلميح بذكر بعض وظائف أو صفات ذلك اللوح العلوي العظيم، ونذكر من تلك النصوص الشرعية ما يلي:

-جاء في سورة الطور قوله تعالى: (وَالطُّورِ (1) وَكِتَابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3))، وقد ذكرنا في المقال السابق ما جاء في مختصر تفسير ابن كثير حول هذا المعنى: “(وكتاب مسطور) قيل: هو اللوح المحفوظ، وقيل: الكتب المنزلة، التي تقرأ على الناس جهارا، ولهذا قال: (في رق منشور)”.

-وعن كلمات المولى عز وجل جاء في سورة لقمان: (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27))، يقول مختصر تفسير ابن كثير حول هذه الآية: “أي ولو أن جميع أشجار الأرض جعلت أقلاما، وجعل البحر مدادا وأمده سبعة أبحر معه، فكتبت بها كلمات الله الدالة على عظمته وصفاته وجلاله، لتكسرت الأقلام ونفذ ماء البحر ولو جاء أمثالها مددا، وإنما ذكرت السبعة على وجه المبالغة ولم يرد الحصر،…. فليس المراد بقوله (بمثله) آخر فقط. بل بمثله ثم بمثله ثم بمثله، ثم هلم جرا، لأنه لا حصر لآيات الله وكلماته. وقال الربيع ابن أنس: إن مثل علم العباد كلهم في علم الله كقطرة من ماء البحور كلها”.

-وجاء في سورة الحديد وصفا لوظائف اللوح المحفوظ في قوله تعالى: (مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22))، ويقول مختصر تفسير ابن كثير حول هذه الآية: “يخبر تعالى عن قدره السابق في خلقه قبل أن يبرأ البرية في الآفاق وفي نفوس البشر أنه (إلا في كتاب من قبل أن نبرأها) أي من قبل أن نخلق الخليقة ونبرأ النسمة، وقال بعضهم: الضمير عائد على النفوس، وقيل عائد على المصيبة، والأحسن عوده على الخليقة والبرية لدلالة الكلام عليها. وقال قتادة: (ما أصاب من مصيبة في الأرض) قال: هي السنون يعني الجدب (ولا في أنفسكم) يقول: الأوجاع والأمراض. قال: وبلغنا أنه ليس أحد يصيبه خدش عود، ولا نكبة قدم، ولا خلخال عرق إلا بذنب، وما يعفو الله عنه أكثر، وهذه الآية أدل دليل على القدرية نفاة العلم السابق –قبحهم الله-. كما روي عن عبد الله بن عمرو بن العاص يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((قدر الله المقادير قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة)) رواه مسلم وأحمد ورواه الترمذي بالزيادة، وقال حسن صحيح”.

-وتضيف سورة الرحمن بعدا آخر من وظائف اللوح المحفوظ في قوله تعالى: (يَسْأَلُهُ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29))، حيث جاء في مختصر تفسير ابن كثير قوله: “وهذا إخبار عن غناه عما سواه، وافتقار الخلائق إليه وأنهم يسألونه بلسان حالهم وقالهم، وأنه كل يوم هو في شأن، قال الأعمش: من شأنه ان يجيب داعيا أو يعطي سائلا، أو يفك عانيا، أو يشفي مريضا، وقال قتادة: لا يستغني عنه أهل السماوات والأرض يحيي حيا ويميت ميتا، ويربي صغيرا ويفك أسيرا، وهو منتهى حاجات الصالحين وصريخهم ومنتهى شكواهم”.

-كما جاء في مختصر ابن كثير أيضا: “وروى ابن جرير عن منيب الأزدي قال: تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: (كل يوم هو في شأن) فقلنا يا رسول الله وما ذاك الشأن؟ قال: ((أن يغفر ذنبا، ويفرج كربا، ويرفع قوما ويضع آخرين)) أخرجه ابن جرير مرفوعا ورواه البخاري مرفوعا من كلام أبي الدرداء”.

-وجاء أيضا: “وقال ابن عباس: “إن الله خلق لوحا محفوظا من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء قلمه نور، وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظره، يخلق في كل نظره، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء أخرجه ابن جرير”.

-أما درة الكلمات الإلهية: “القرآن الكريم” فقد وردت روايات أنه قد أُنْزِلَ كاملا في ليلة القدر من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا وكان ذلك في شهر رمضان، ثم نزل مفرقا على مدار فترة الدعوة النبوية في 23 سنة، وقد أورد مختصر تفسير ابن كثير بعض هذه الروايات ضمن تفسير سورة القدر: (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1))، يقول: “قال ابن عباس: أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا، ثم نزل مفصلا بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم”. وقد ذُكِرَ ذلك أيضا في سورة الدخان عند قوله تعالى: (حم (1) وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4))، ويقول مختصر تفسير ابن كثير: “(فيها يفرق كل أمر حكيم) أي في ليلة القدر يفصل من اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمر السنة، وما يكون فيها من الآجال والأرزاق وما يكون فيها إلى آخرها”.

هذا أيها القارىء الكريم هو اللوح المحفوظ سجل الأقدار الذي يضم جميع الأقدار من قبل خلق الخليقة إلى ما شاء الله، اللوح المحفوظ يشير إلى سعة علم الله ويؤكد عجز علم البشر، اللوح المحفوظ خلقه الله من درة بيضاء دفتاه ياقوتة حمراء قلمه نور، وكتابه نور، وعرضه ما بين السماء والأرض، ينظر فيه كل يوم ثلثمائة وستين نظره، يخلق في كل نظره، ويحيي ويميت، ويعز ويذل، ويفعل ما يشاء, كما ورد عن ابن عباس فيما أخرجه ابن جرير…. إن الناظر إلى هذه المخلوقات العلوية المشرفة ليرى بعين القلب عظمة الخلق ولا يملك إلا أن يقول: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ) 191: سورة آل عمران.

المراجع: 

-البداية والنهاية: ابن كثير (700 – 774 هـ).

-الدر المنثور في التفسير بالمأثور:جلال الدين السيوطي (849 – 911 هـ).

-مختصر تفسير ابن كثير: اختصار وتحقيق محمد على الصابوني، 3 مجلدات (1973م).

بقلم: د.سعد كامل

أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر

saadkma2005@yahoo.com

Exit mobile version