مفهوم الكون الكبير ..(20) آمال التكامل بين العلوم المادية والعلوم الشرعية
بقلم / د.سعد كامل
البحث العلمي بين العلوم المادية والعلوم الشرعية:
تعارف الكثير من الناس على مقولة: “دع ما لقيصر لفيصر وما لله لله”، والمؤلف يعترض جزئيا وكليا على هذه المقولة، فإن كل شيء في هذا العالم لله سبحانه وتعالى، ولا يوجد في الكون شيء يمتلكه قيصر أو غيره “ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما” المائدة: 18، وللأسف الشديد يقوم العلماء الماديين وبعض العلماء الشرعيين بتنفيذ مقولة “قيصر”، فيرفضون الجمع بين العلم المادي والديني في إطار واحد… ولمواجهة هذه النزعات المادية فقد كتب المؤلف بحث مفهوم الكون بين النقل والعقل (كامل، 2019) مؤكدا على حقيقة إنه بحث علمي، وأن ديدنه هو البحث عن الحقيقة، فكاتبنا على يقين أن التراث الإسلامي فيه الكثير والكثير من المفاهيم القوية حول الكون وخلق الكون لكن تحتاج من يضع صيغة مناسبة للجمع بين هذه المفاهيم وبين مفهوم الكون المعاصر في العلوم الطبيعية. وقد استغرقت في التفكير حول هذه الفكرة باحثا عن كيفية تصنيف بحث ما على أنه “علمي” أو “غير علمي”؟
بداية نستنتج من ظاهر الكلام أن البحث إذا كان يقوم على أدلة شرعية بشكل أساسي فإن العلماء الماديين لن يقبلوه، فنقول يمكن الرد على هذا بأن الخصام الإلحادي بين العلم المادي والعلوم الشرعية غير معروف في الإسلام فالعلوم المادية والعلوم الشرعية يتكاملان ولا يتضادان، بالتالي فالدليل الشرعي المطروح في هذا البحث (وفي غيره من الأبحاث الشرعية) لا يحتاج للعلماء الماديين أن يوافقوا عليه، بل نطرحه كما طرح القرآن الكريم قضايا الخلق على مشركي مكة في سياق إثبات توحيد الخالق سبحانه وتعالى، ومن شاء فليؤمن… كما أن هذا الخلاف نشأ تاريخيا بسبب مبادئ وضعها الفكر الإلحادي الغربي ليس للفكر الإسلامي ناقة فيها ولا جمل.
مفهوم العلم في المراجع التربوية:
وبالتفكير مرة أخرى حول كون الكلام علمي أو غير علمي تساءلت: ما هو التعريف الصحيح للكلمة (العلم)… فاتجهت إلى العلوم التربوية وعلوم المكتبات فوجدت تصنيفات مكتبة الكونجرس وتصنيف ديوي العشري تضع العلوم الدينية ضمن مفهوم العلم (سالم، 2016)، كما أن التعريف الأساسي للعلم في الإسلام يفهمه بعض الناس على أنه العلم الديني فقط، بينما الصواب أن العلم يشمل كلا الجانبين سواءا بسواء.
فهناك علوم شرعية لها آليات وأساليب في البحث والتناول، وهناك علوم مادية أو طبيعية أو إنسانية لها أيضا آليات وأساليب في البحث والتناول.
بالتالي نحتاج إلى وضع ضوابط للتعامل بين هذه الأنواع المتعددة من العلوم شرعية كانت أو بشرية، وقد بحثت كثيرا عن تصنيف عام للعلوم يشفي الغليل ويوضح تلك العلاقات المتشابكة بين أنواع العلوم بطريقة بسيطة ومقبولة عند جميع المتعاملين ضمن الأطر المتماسة بين تلك العلوم وبعضها البعض، فلم أجد أفضل من التصنيف الهرمي للعلوم الذي تعلمته من الأستاذ الدكتور زغلول النجار (النجار، اتصال شخصي)، والشكل رقم (1) يقدم مخطط هذا التصنيف الذي يقسم العلوم بشكل عام إلى ما يلي:
- علوم بحتة في قاعدة الهرم (مثل: الفيزياء والكيمياء والأحياء والرياضيات؛ إضافة إلى العلوم التطبيقية مثل الطب والهندسة والزراعة والجيولوجيا)،
- فلسفة العلوم في المرتبة الثانية من الهرم (وتتضمن عمليات وضع النظريات والنماذج الخاصة بخدمة العلوم البحتة)،
- علوم الإنسانيات (مثل: اللغة والتاريخ والجغرافيا والاجتماع)،
- علوم الفلسفة (وتتضمن آليات التفكير العامة من المنطق والتفكير الناقد والفلسفة العامة)،
- العقائد وعلوم الدين (وتتضمن علوم العقيدة والشريعة والفقه وآليات النقل الشرعي بشكل عام).
ويتميز هذا التصنيف في أنه يقوم في الأساس بضبط أنواع العلوم من حيث محتوى كل منها، ومن حيث مصدر كل منها، وبالتالي يرتبها وفق مكانة كل منها وشرفه المستمد من محتواه ومن مصدره.
شكل رقم (1): هرم تصنيف العلوم للدكتور زغلول النجار مع بعض الأمثلة (النجار، اتصال شخصي).
((لو كان الشكل غير ظاهر، نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))
اختلاف آليات البحث بين أنواع العلوم:
تختلف آليات وأساليب التعامل في كل علم وفقا لموقع ذلك النوع من العلم ضمن هذا التصنيف الهرمي:
- العلوم البحتة وفلسفتها يناسبها وسائل البحث التجريبي من تجربة وملاحظة واستنتاج.
- الإنسانيات والفلسفة يناسبها الأبحاث الميدانية والاستبيانات والتحليل المجتمعي.
- علوم العقائد والعلوم الدينية تقوم على النصوص الشرعية المنقولة بالوحي عن الخالق سبحانه وتعالى وبالرواية عن الرسل عليهم السلام وعن التابعين للرسل.
وعليه يجب أن تتفاوت آليات التعامل البشري مع كل علم من هذه العلوم ويلخص ذلك قول أحد علماء الشريعة: “كل يؤخذ من كلامه ويترك إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم”.
ماذا لو كان هرم العلوم مقلوبا؟
وقد توقف الكاتب عند نقطة فلسفية مرتبطة بتصنيف النجار الهرمي للعلوم: ماذا لو كان هذا الهرم مقلوبا؟ (شكل 2 أ، ب):
شكل (2): ماذا لو كان هرم العلوم مقلوبا؟
((لو كان الشكل غير ظاهر، نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))
- في الوضع (أ): حيث يكون الهرم مقلوبا (قاعدته لأعلى بنفس توزيع المساحات)، نجد أن العلوم البحتة تبدو الأكثر شرفا والأكبر مساحة، وهو وضع مشابه للمعمول به حاليا من حيث تكريم تلك العلوم، بل واعتبار العلوم المادية هي كل العلم وفقط!
- أما في الوضع (ب): حيث تكون قاعدة الهرم لأسفل، مع تبديل المساحات فتبدو العلوم البحتة أقل من حيث المساحة (وما أوتيتم من العلم إلا قليلا… سورة الإسراء: 85)، لكنها الأعلى من حيث المكانة، وتبدو العقائد في قاعدة الهرم باللون الأخضر حيث تمثل الجذور التي تغذي ما فوقها من العلوم… صحيح أن هذا الوضع يمكن أن يكون مقبولا، لكن العلماء الماديين يرفضون الاعتراف بأي أصل ديني للعلم.
بالتالي يكون الشكل الأكثر دقة هو الهرم المعتدل (شكل 1).
هنا نؤكد أن بحث مفهوم الكون يعتبر “بحثا علميا” في إطار علوم الدين والعقائد مع فتح الباب أمام التكامل مع العلوم المادية وفق الآلية المذكورة أدناه، وأنه مطروح في المقام الأول لأساتذة الشريعة ومن في حكمهم للمراجعة والنقد والتصحيح، وقد اتضح مما تقدم أن لكل نوع من أنواع العلوم الكبرى آليات وأساليب للتعامل.
آلية مقترحة للتكامل بين العلوم الشرعية والعلوم المادية:
نحن هنا بصدد محاولة إيجاد آلية للتعاون والتكامل بين العلوم الشرعية والعلوم المادية. وعليه يؤكد كاتب هذه السطور أن الإشكالية التي قد يتوقف عندها من يراجع بحث مفهوم الكون (كامل، 2019) وهي إشكالية الرافعية أو الماسكية في مقابل الجاذبية -باعتبار أن البحث ينادي بأن الملائكة تحمل الكون-، وأن تلك الإشكالية قد نشأت من اعتبار علماء الفلك والفيزياء النظرية أن نشأة الكون (يقصدون الكون المدرك فقط) قد تمت بواسطة الانفجار العظيم، كما يؤكدون أن للجاذبية دورا محوريا في ضبط توسع الكون بعد ذلك الانفجار، كما أنهم وضعوا مفاهيم متعددة للجاذبية اعتبارا من معادلات نيوتن، إلى نسبية أينشتين والزمكان ذو المكانة الكبيرة في الخلق، ثم الأوتار الفائقة ونظرية كل شيء لهوكن وأقرانه.
وكل هذه المحاولات البشرية تندرج ضمن ما يعرف علميا بالنظريات العلمية التي قد تؤيدها حقائق مستنتجة من أبحاث تجريبية، أو يكون هناك اعتراضات على هذه النظريات مما يجعلنا نشكك في صحتها كما ذكرنا في المقالات السابقة.
أما محاولة بعض العلماء المؤمنين في الربط بين معطيات تلك النظريات المادية وبين المفاهيم المستنتجة من النصوص الشرعية، فهذه الاقتراحات أو الاستنتاجات (مثل القول أن الملائكة تحمل الكون) تعتبر وجهات نظر أو اجتهادات بشرية تقترب أو تبتعد عن المفهوم الشرعي للنص.
وهنا يأتي دور أساتذة العلوم الشرعية –خاصة المتبحرين في التعامل مع العلوم المادية- ليقبلوا تلك الاجتهادات أو الرؤى (جمع رؤية) الفردية أو يرفضونها وفقا لألياتهم في القبول و/أو الرفض.
وعليه يرجو كاتب هذه السطور أن يتفضل أساتذة العلوم الشرعية بنقد المفاهيم المطروحة ضمن هذه السلسلة من المقالات حول مفهوم الكون الكبير، مما يمكن أن يؤدي إلى قبولها أو تعديلها أو رفضها بالكلية وفق أسس منطقية شرعية مقبولة، ويرجو الكاتب أن قبول تلك الأفكار يمكن أن يحقق فائدة البشرية جمعاء من الثروات المكنونة في النصوص الشرعية الإسلامية حول مفهوم الكون المتكامل.
ومن هنا يظن المؤلف أن ذلك هو الطريق الصحيح لوصف المفاهيم التي يطرحها بأنها علمية أو غير علمية، والله أعلم.
وبطريقة أخرى فمن حيث مفهوم الكون تتوفر لدينا معلومات هائلة من الدراسات البشرية للكون (المدرك)، وهناك أعداد كبيرة من النظريات تفسر وتشرح تلك المعلومات، بعض هذه النظريات صحيح وبعضها تشوبه عوامل الضعف نظرا لعدم إمكانية تأكيدها بالأدلة التجريبية، فيجب فيما يخص الأدلة التجريبية الرجوع إلى أهل الاختصاص لقبول أو رفض تلك النظريات، وفي نفس الوقت توجد في النصوص الشرعية إيماءات نحو الكثير من المفاهيم حول الكون (الكبير) ونشأته وبنائه، والمراد فعله هنا هو قيام المهتمين بالعلوم المادية من المؤمنين بتقديم رؤيتهم حول ما يفهمونه من تلك النصوص الشرعية (مثل السلسلة الحالية من المقالات حول مفهوم الكون).
وهنا يتم الجمع بين الرؤى المطروحة من هؤلاء العلماء المؤمنين وبين النظريات العلمية للتوفيق بينهما وقبول الصواب ورفض الرؤى التي يجانبها الصواب، بالتالي لن تكون المقارنة بين النص القرآني أو الحديث الشريف وبين النظريات البشرية، بل ستكون المقارنة بين الرأي البشري من الجهتين فنقبل الصواب ونترك ما لم تثبت صحته. وفي حالة السبق الشرعي في وصف تفاصيل لم تذكرها النظريات المادية (من الأمور الغيبية: وبصفة خاصة هنا حول مفهوم الكون وخلق الكون)، فيمكن قبول ما تتضمنه الرؤية المطروحة حول هذه التفاصيل ما دامت لا تتعارض مع مفهوم السلف الصالح وذلك وفق القواعد المعمول بها عند علماء الشريعة، مع الأخذ في الاعتبار ما تتضمنه تلك الرؤية من استفادة بمفهوم الكون المدرك في العلوم المادية وهو ما لم يكن متاحا للأوائل من علماء السلف رحمة الله عليهم.
الخلاصة حول الربط بين عالم الغيب وعالم الشهادة:
نؤكد هنا أن المسلم يتعامل مع عالم الغيب (مثل عوالم الروح والملائكة والجن وغيرها) ومع عالم الشهادة (مثل الجسم البشري والأحياء والجمادات من حوله) على أنهما عالمين متكاملين لا غنى لأي منهما عن الآخر، بالرغم من اختلاف ذلك عند العلماء الماديين!
كما تجب الإشارة إلى حقيقة أن العلماء المسلمين الأوائل قد وضعوا الأسس العلمية للمنهج التجريبي في الأمور المادية (الملاحظة والتجربة والاستنتاج)، وفي نفس الوقت كانوا يتفكرون في مكونات العالم العلوي في السماوات السبع والأرضين السبع والملائكة والكرسي والعرش بنفس الدرجة من اليقين دون أن يمنعهم الاهتمام بالأمور المادية عن قبول الأمور الغيبية والتفكر فيها، وكانوا في ذلك يدورون حول طلب الأجر والثواب من عملهم في كلا الجانبين المادي والغيبي على السواء.
المراجع:
- النجار، زغلول (2001) من أسرار القرآن (موقف المفسرين من الآيات الكــــونية في القرآن الكريم2)، جريدة الأهرام المصرية العدد 41790.
- سالم، ناهد (2016): منطق تصنيف العلوم في نظم التصنيف العربية الإسلامية: قراءة تحليلية مقارنة بنظم التصنيف الغربية الحديثة،مجلة كلية الآداب والعلوم الاجتماعية، جامعة السلطان قابوس، عمان؛ مجلد 7، العدد 3، 69-78 ص ص.
- كامل، سعد (2019) مفهوم الكون بين النقل والعقل، دار نور للنشر
بقلم: د.سعد كامل
أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر
saadkma2005@yahoo.com