مفهوم الكون الكبير ..(23) حوار حول نشأة الكون: بالانفجار أم بالبناء العظيم؟
الحلقة الثالثة: بنية الكون وموقع الكرة الأرضية
بقلم: د.سعد كامل
ننتقل إلى الحلقة الثالثة من هذا الحوار، والتي تتضمن مناقشة التفاصيل المرتبطة بنظرية الانفجار العظيم التي يتبناها السيد أكرم، مع إظهار أوجه الاتفاق وأوجه الاختلاف عن مبدأ البناء العظيم الذي ينادي به السيد كريم… ويمكن ترتيب تفاصيل الحوار تحت العناوين الجانبية التالية:
- بنية الكون والسماوات والأرضين.
- الكرة الأرضية ومركز الكون المدرك.
وسوف يعرض السيد أكرم ما لديه حول ما يرتبط بالانفجار العظيم في كل نقطة من هذه النقاط، ثم يلي ذلك تعليق السيد كريم على كلام السيد أكرم، ويضيف ما يرتبط برؤيته للبناء العظيم وفق المفهوم الإسلامي للكون (المقترح ضمن هذه السلسلة من المقالات). … فإلى الحوار:
بنية الكون والسماوات والأرضين:
أكرم: ننتقل الآن للحديث عن مادة خلق الكون والمادة المظلمة. تشير نظرية الانفجار العظيم إلى أن الكون بدأ من كتلة صغيرة جدا من مادة عالية الكثافة جدا انفجرت فتكون منها الكون كما جاء أعلاه، لكن عمري (2004أ) يذكر أن مادة خلق الكون هي الماء العظيم الذي ورد في النصوص الشرعية فيما يخص مادة خلق الكون، وقد اعترضت أنت يا سيد كريم على فكرة الدمج بين معطيات النظرية المادية وبين الحقائق المذكورة في النصوص الشرعية، وعن نفسي أوافقك الرأي لكن هذه نقطة تحتاج للبحث والتدقيق. كما أن علماء الكونيات يقولون أن مادة الكون المحسوسة لا تصل إلى 10% من كتلة الكون المدرك، وأن المادة المظلمة التي لا يعرفون حقيقتها تحمل الكون بفراغات هائلة بين المجرات.
كريم: أشكرك يا صديقي، لكنني عندما اعترضت على هذا الدمج كنت أعترض أيضا على الخلفية الفلسفية التي بنيت عليها نظرية الانفجار العظيم، وهي خلفية إلحادية تنكر أي دور للخالق العظيم في خلق الكون فكيف نعطيها شرف الموافقة عليها ووضعها في بوتقة واحدة مع الحقائق المذكورة في النصوص الشرعية؟
وفي المقابل فقد اقترحت نموذجا للخلق ينطلق من حالة خلق أبو البشر آدم عليه السلام الذي صوره ربه من الطين ثم نفخ فيه من روحه فانتصب قائما بأمر ربه الواسع العليم، وبالمثل اقترحت أن الله تبارك وتعالى قد خلق الكون كتلة واحدة –قد تكون كروية- تضم مادة الكون وتضم نواة الكون المدرك في المركز وحولها طبقات متلاصقة (طرائق مثل طبقات النعل رتقا) من السماوات والأرضين وقد أطلقت على هذه الكتلة مسمى الأرض الأولية (كامل، 2019)، ثم بعد ذلك صدر الأمر الإلهي برفع السماوات (رفع سمكها فسواها) {سورة النازعات: 28}، ففتقت فأصبحت (طباقا) بينها خلاء، وهذا يشبه ما يطلق عليه علماء الفلك مسمى التضخم الأولي عند خلق الكون.
أما فيما يخص حمل الكون فقد اقترحتُ أن الملائكة تحمل الكون عوضا عن ما يسمى بإسم المادة المظلمة، وقد ذكرت على ذلك بعض الأدلة من النصوص الشرعية (نفس المرجع السابق)، والله أعلم.
أكرم: لكنك يا صديقي لم تذكر كيف تتخلق مادة الكون التي تبني الأجرام السماوية في الكون المدرك، فكيف يتم بناء النجوم والكواكب والمجرات؟ إن ذلك من الأمور المشاهدة في صفحة الكون وتقوم عليها الكثير من الأبحاث الفلكية، فهناك أنواع من النجوم نعرف أنها تصنف حسب حجمها وحسب مقدار الطاقة بها (صفراء وبرتقالية وحمراء) وباستمرار الاندماجات النووية في أجسام هذه النجوم تتآصل العناصر فيتكون الهيليوم من اتحاد ذرات الهيدروجين… وهكذا حتى يتكون الحديد وغيره من العناصر الثقيلة، وبانفجار النجوم العملاقة (السوبر نوفا) تتكون النجوم الصغيرة ومجموعاتها من الكواكب.
كريم: مادة الكون يا صديقي موجودة بوفرة عند خالق الكون سبحانه وتعالى مصداقا لقوله تعالى في سورة الحجر: (وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21))، فعملية خلق الكون تمت من مادة موجودة في علم الله تبارك وتعالى، ولا يتعارض ذلك مع استمرار نمو الكون وتخليق مادة جديدة من مادة الكون في أجرام النجوم الصغيرة والعملاقة.
وعليه فإنني أؤمن أن مادة خلق الكون كانت موجودة في الخزائن الإلهية، وأن تآصل العناصر ممكنا أيضا بعد خلق الكون، وهذا يجمع بين طلاقة القدرة الإلهية في خلق كل شيء بداية، وبين نفاذ القوانين الفيزيائية التي وضعها الخالق سبحانه وتعالى بعد خلق الكون لينتفع البشر بالكون الذي سخره الله تبارك وتعالى لهم في الحياة الدنيا.
أكرم: يقول عمري (2004أ) حول بنية الكون المدرك والسماوات السبع: ” يرى المفسّرون أنّ الماء هو مادّة بدء الخلق، هذا ولا مانع من أن تكون السماوات السبع والأرضين السبع قد خلقتا من العدم. حدث انفجارٌ عظيم في مادّة بدء الخلق للسماوات والأرضين بعد أن كانت رتقاً (أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا) [الأنبياء 30]. ومع توسّع وتبرُّد الكون حدث الفتق: أي خلق الله الأرضين السّبع الطباق وخلق كذلك السّماوات السّبع في ستّة أيّام.
لقد بدأ خلق الأرضين السّبع مع الانفجار العظيم، ومع نهاية اليوم الثاني اكتمل خلقها. ومع نهاية اليوم الرّابع خلق الله في أعاليها الدقائق الأوّليّة للمادّة والإشعاع اللذين كانا أساساً لخلق المادة النيوكليونية، وأساساً لدحو الكرة الأرضية التي تأخّر خلقها حوالي ثماني مليارات سنة عن خلق الأرضين السّبع وخلق السّماوات السّبع. ومع نهاية اليوم السّادس اكتملت تسوية البناء السّماوي الطّبقي بعد أن استقلّت طبقاته مكانيّاً وحراريّاً.
هذا وإنّ بناء السماء واسعٌ ومتوسّعٌ إلى أن يطوى يوم القيامة. وعندما أصبح عمر الكون من رتبة مليون سنة بدأ خلق النّجوم والمجرّات. وبعد ثماني مليارات سنة من انقضاء الأيّام السّتة الخاصّة بخلق السّماوات السّبع والأرضين السّبع بدأ خلق مجموعتنا الشمسية”.
كريم: إسمح لي يا صديقي ألا أكرر تعليقي المذكور أعلاه على اعتبار د.عمري أن السماوات السبع تدخل ضمن إطار الطبيعة، بالتالي فهو يعتبر أن القوانين الفيزيائية سارية عليها في الخلق والبناء، بينما الأساس أن الذي يدخل ضمن نطاق الطبيعة فقط هو الكون المدرك الذي يمثل أقل من ثلاثة أجزاء من مليون جزء حجما من الكون الكبير!! فكيف نجعل نطاق الطبيعة والقوانين الفيزيائية يشمل البناء السماوي الكبير؟
أكرم: لقد ذكرتُ يا صديقي في بداية الحوار أن هذا الكون كون كمومي يقوم على الطاقة الكمومية على مستوى مكونات الذرة، وذلك يفسر كلام أستاذنا الدكتور عمري حول بنية السماوات وفق مستويات الطاقة.
كريم: لا يا صديقي هيا بنا نقوم بتفعيل المقولة الرومانية القديمة: “اعط ما لقيصر لقيصر وما لله لله”، فأنا على الرغم من اعتراضي على هذه المقولة باعتبار أن قيصرا وما له كله لله… لكن في مجال حوارنا الحالي فإن الكون المدرك من بنية الكون الكبير هو الذي لقيصر (أو هو فقط الذي تختص به القوانين الفيزيائية)، بينما جميع السماوات السبع والأرضين السبع فهي غيب لا يعرف عنه البشر أي شيء إلا من خلال الوحي السماوي، فكيف تسري بحقها القوانين الفيزيائية والمعادلات الكمومية؟
وعموما يا صديقي أنا أعتقد أن النموذج الذي اقترحه السمان (2017) فيما يخص بنية السماوات السبع والأرضين السبع، أعتقد أن هذا النموذج مناسب لتمثيل بنية هذا الجزء من الكون الكبير، وقد أوضحت وجهة نظري حول بنية الكون أو مخطط الكون الذي يضم أيضا الكرسي (الذي يضم السماوات السبع في جوفه، ولا تمثل بالنسبة له إلا حلقة في فلاة كما ورد في الحديث الصحيح)، ويضم أيضا الماء والعرش الذي لا يقدر قدره إلا الله.
ومقترحي هذا يقدم تعديلا طفيفا على نموذج السمان ضمن مخطط الكون (انظر المقال رقم 10 من هذه السلسلة حول أبعاد الكون).
الكرة الأرضية ومركز الكون المدرك:
أكرم: لقد أتعبتني كثيرا يا صديقي في هذا الحوار الطويل الذي تناولنا فيه موضوعات شائكة، واختلفنا كثيرا واتفقنا قليلا، لكنني بحمد الله لازلت صامدا أمام محاولاتك للنيل من أفكار راسخة في عقول هذا الجيل من العلماء، صحيح أنني أشعر باهتزاز العرش أسفل امبراطورية الانفجار العظيم في حال نجحت محاولاتك التي تنطلق من الخلفية الشرعية، لكنني وكما قلت سابقا سوف أظل خلف ستائر النافذة لأراقب من سيحمل الكأس في النهاية! كما يسعدني أن تكون النقطة التالية حول الكرة الأرضية ومركز الكون المدرك هي النقطة الأخيرة في هذا الحوار الممتع (بالرغم من أنه أجهدنا كثيرا).
يرى عمري (2004ب) أن الأرضين السبع هي سبع مستويات كروية، طباق وفتق، ولكل أرض منهن مجراتها وعناقيدها المجرية، فهي تمثل الحاضن الجذبي للمجرات والعناقيد المجرية، وتحتوي على جزء لا بأس به من مادة الكون المعتمة الباردة. ويعرض عمري (2004ب) شكلا دائريا يوضح تجمعات العناقيد المجرية في الكون المدرك على مقياس كبير، ويشير إلى أن تدوير هذا الشكل يعطي أسطح كروية بينها فراغات هائلة تمثل البنية الكروية للأرضين السبع التي في مركزها جهنم (شكل 1).
شكل (1)
((إذا كان الشكل غير ظاهر، فضلا اضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))
كريم: إنني أرى هذا الوصف للأرضين السبع كأنه ينطبق على مفهوم الكون المدرك، فالأشكال التي يعرضها د.عمري تشير إلى محاولات علماء الفلك والوكالات الفضائية الدولية لدراسة توزيع المجرات والعناقيد المجرية والمادة المظلمة في الكون المدرك، لكن يبدو أن أستاذنا الكريم يظن أنه اكتشف ما ينطبق على مفهوم الأرضين السبع عندما افترض أن المادة المظلمة هي الأرضين السبع، وبالتالي أخذ الأشكال التي ترصد المادة المظلمة في الكون المدرك ووضعها على اعتبار أنها تمثل الأرضين السبع، وعليه أقترح على سيادته مراجعة ذلك لتصحيح المفهوم.
هذا وقد اقترحت في مقال الكون وأبعاده (المقال 10 من هذه السلسة، شكل 2) مخططا للكون يوضح ما جاء في النصوص الشرعية بالتفاصيل التالية:
شكل رقم (2) مخطط تخيلي للكون بمعناه الواسع في العلوم الشرعية، مع وصف موجز لمكونات الكون.
((إذا لم يظهر الشكل، فضلا اضغط على الفراغ أعلى هذا السطر))
-الإشارة للأرضين السبع على أنها تشير إلى جهة السفل من السماوات السبع بالنسبة للعرش.
-وأن السماوات العلى تشير إلى جهة العلو من السماوات السبع باتجاه العرش.
-وأن الجنة في السماوات العلى وأن النار في الأرضين السبع.
– وأن الكرة الأرضية في مركز الكون المدرك (ولو ظاهريا) وليست من ضمن الأرضين السبع.
ولعل ذلك المخطط يعرض نموذجا للتوزيع المتساوي للجنة وللنار في الكون، وقد شرحتُ في ذلك المقال (أبعاد الكون) بعدا فلكيا لمفهوم السماوات التي تحيط بالكرة الأرضية وبالكون المدرك إحاطة تامة، حيث أن الجهة من السماء بالنسبة لساكني النصف الجنوبي للكرة الأرضية تعتبر سماءا أيضا، بالتالي يمكن اعتبار السماوات السبع فلكيا محيطة بالكون المدرك من جميع الجهات، مع العلم أن التمييز بين الأرضين السبع في جهة السفل والسماوات العلى في جهة العلو يوافق النصوص الشرعية، كما أن اعتبار الأسطح العليا لكل سماء أرضا يتيح لنا استيعاب وصف أرض الجنة وغير ذلك من الأوصاف الواردة حول الجنة والنار أيضا.
وبعد أيها القارئ الكريم، أرجو أن يكون هذا الحوار السريع -بين اثنين من الشباب المسلم-، يكون قد أوضح مدى تشابك قضية مفهوم الكون بين العلوم المادية والعلوم الشرعية، وأرجو على وجه الخصوص أن تكون حالة الخلاف بين العلماء المسلمين المناصرين للعلوم المادية –ذات الصبغة الإلحادية- من جهة، تجاه زملائهم من العلماء المسلمين الذين يعتنقون مبدأ ضرورة التكامل بين العلوم المادية والعلوم الشرعية من جهة أخرى، نرجو أن يكون هذا الحوار قد أوضح تلك الحالة التي من المؤكد أنها لا ترضي هؤلاء ولا أولائك.
فهل إلى وضع نهاية صحيحة لهذا الخلاف من سبيل؟
المراجع:
-السمان، عبد الرحمن (2017): رؤية علمية إيمانية عن مفهوم السماوات السبع والأرضين السبع، المؤتمر العلمي الدولي الخامس بكلية اللغة العربية – جامعة الأزهر بالزقازيق، (آفاق الإعجاز في القرآن الكريم).
-عمري، ح. (2004 أ): خلق الكون بين الآيات القرآنيّة والحقائق العلميّة، مؤتة للبحوث والدّراسات (سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعيّة)، المجلد 19، العدد 4 ، ص 11 –41 .
-عمري، ح. (2004 ب): الأرضون السّبع وتوزيع الصفائح المجرِّيّة الضخمة على نطاق كوني واسع، مجلة كلية المعارف الجامعة – الأنبار- العراق عدد 6، السنة الخامسة.
-كامل، س. (2019): مفهوم الكون بين النقل والعقل، دار نور للنشر الإلكتروني.
-كامل، س. (2022): سلسلة مقالات حول مفهوم الكون الكبير، المقال رقم (10) رؤية إيمانية مقترحة لأبعاد الكون الكبير، موقع وضوح للنشر الإلكتروني.
بقلم: د.سعد كامل
أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر
saadkma2005@yahoo.com