البحث العلمى

مفهوم الكون الكبير.. (29) السماء: الغلاف الجوي والسماوات والكون

الحلقة الثالثة: السماء في الدنيا والآخرة

بقلم: د.سعد كامل

عرض المقال السابق جدولين لتصنيف الآيات التي جاء فيها لفظ السماء في القرآن الكريم (انظر الجدولين في صورة الغلاف)، ونتوقف في هذا المقال عند بعض المعاني الخاصة بوصف السماء والكون في هذه الدنيا وفي الآخرة، وذلك في ضوء تفسير بعض الآيات الواردة في الجدول (2) بشكل أساسي.

آيات حول بعض شؤون السماء:

يجب أن نؤكد هنا على حقيقة مهمة وهي أن السماوات والكون، فيما عدا نصف السماء الأولى (أو الكون المدرك الذي يبلغ نصف قطره أكثر من 10 آلاف مليون سنة ضوئية)، ويعتبر الكون خارج حدود ذلك الكون المدرك ،من أمور الغيب التي لا يمكن للبشر أن يدركوا أية أوصاف عنها دون الرجوع إلى الوحي السماوي. فيمكن للبشر مثلا (حاليا) رصد المجرات السابحة في حدود الكون المدرك سواء بأجهزة الرصد العادية أو الرادارية، كما يمكنهم تخيل ما الذي سيحدث لرواد الفضاء عندما يسافرون خارج الكرة الأرضية، وبالتالي يمكنهم وضع تصورات قريبة من الواقع لمتطلبات تلك الرحلات الفضائية التي لم تخرج حتى وقتنا الحاضر عن جولات في حدود المجموعة الشمسية (أو مسافة تساوي حوالي خمسة ساعات ضوئية فقط).

نعم يمكن حدوث هذه الأشياء حاليا في حين أنها لم تكن ممكنة منذ عهد قريب، وكانت دوائر الغيب أكبر مما هي في وقتنا الحاضر، فالصعود إلى السماء مع نقص تركيز الأكسجين، لم يكن معروفا حتى وقت قريب، لكن القرآن الكريم ذكر ذلك في قوله تعالى في الآية 125 من سورة الأنعام: (وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ). فهيا بنا نعيش مع بعض الحقائق القرآنية حول السماء وما يحدث فيها:

أ‌)  جنود الله في السماء:

للسماء شؤونا خاصة تتطلب حركة الملائكة (من أهل الملأ الأعلى) صعودا وهبوطا، وذلك لأداء مهام محددة لتسيير أمور الخلق بأوامر المولى عز وجل، ولتوصيل الرحمات والبشريات والآيات للمؤمنين، وكذلك لإنزال العذاب على الكافرين، كما يقوم جند الله في السماء بأداء وظائف أخرى منها حماية السماوات العلى من تجسس شياطين الجن .

ونستعرض مع بعض الآيات حول جنود الله في السماء:

-من عناد فرعون ومشركي مكة أنهم كانوا يطلبون أن ينزل لهم ملكا رسولا في حين أنهم لم يكونوا ليؤمنوا حتى لو نزل عليهم ملكا رسولا، وذلك كما في قوله تعالى في سورة الإسراء: (قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا (95))، وقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير حول هذه الآية ما يلي: “يقول تعالى منبها على لطفه ورحمته بعباده، أنه يبعث إليهم الرسول من جنسهم، ليفقهوا عنه ويفهموا منه، ولو بعث إلى البشر رسولا من الملائكة لما استطاعوا مواجهته ولا الأخذ عنه، (قل لو كان في الأرض ملائكة يمشون مطمئنين) أي كما أنتم فيها، (لنزلنا عليهم ملكا رسولا) أي من جنسهم، ولما كنتم أنتم بشرا بعثنا فيكم رسلنا منكم لطفا ورحمة”. فهي إذن الرحمة الإلهية أمام عناد الكافرين، ثم نرى أيضا حقيقة علوية وهي أن الملائكة لا يمشون على الأرض (الكرة الأرضية) مطمئنين، لذلك لا يصلح أن يرسل الله منهم للبشر ملكا رسولا.

-كما ورد في قصة حبيب النجار (مؤمن أنطاكية) الذي دعا قومه إلى الهدى بحجة بالغة، إلا أنهم قتلوه فجات الآية 28 من سورة يس تصف ما حدث لهؤلاء القوم الظالمين: (وَمَا أَنْزَلْنَا عَلَى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّمَاءِ وَمَا كُنَّا مُنْزِلِينَ (28))، يقول مختصر تفسير ابن كثير: “فهنا يخبر تعالى أنه انتقم منهم بعد قتلهم إياه، غضبا منه تبارك وتعالى عليهم، لأنهم كذبوا رسله وقتلوا وليه، ويذكر عز وجل أنه ما أنزل عليهم، وما احتاج في إهلاكه إياهم إلى إنزال جند من الملائكة، بل كان الأمر أيسر من ذلك”. نعم فلله جنود السماوات والأرض.

-وقد وردت قصة المائدة التي طلبها الحواريين من عيسى عليه السلام في سورة المائدة، حيث استجاب الله تبارك وتعالى لدعاء عيسى عليه السلام وأنزل المائدة كما في قوله تعالى: (قَالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُهَا عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذَابًا لَا أُعَذِّبُهُ أَحَدًا مِنَ الْعَالَمِينَ (115))، يقول مختصر تفسير ابن كثير: “وقد روى ابن جرير عن عبد الله بن عمرو قال: {إن أشد الناس عذابا يوم القيامة ثلاثة: المنافقون ومن كفر من أصحاب المائدة وآل فرعون}، وروى ابن جرير عن ابن عباس قال: {فأقبلت الملائكة تطير بمائدة من السماء، عليها سبعة حيتان وسبعة أرغفة حتى وضعتها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل منها أولهم}”.

-كما يقوم جنود السماء بحراسة السماء من تجسس شياطين الجن، وقد جاء في سورة الجن: (وَأَنَّا لَمَسْنَا السَّمَاءَ فَوَجَدْنَاهَا مُلِئَتْ حَرَسًا شَدِيدًا وَشُهُبًا (8))، فها هنا إشارة إلى وجود الحرس الشديد والشهب لحقظ السماء من استراق السمع الذي يقوم به شياطين الجن. أما مطلع سورة الطارق: (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3))، فالآية تشرح نفسها، حيث أن الله تبارك وتعالى يقسم بقدرته على خلق السماء وما فيها، وبقدرته على خلق النجوم التي تظهر ليلا (الطارق) الذي تشير الآية التالية أنه هو (النجم الثاقب)، ويقول مختصر تفسير ابن كثير: “قال قتادة: {إنما سمي النجم طارقا لأنه إنما يرى بالليل ويختفي بالنهار}، ويؤيده ما جاء في الحديث: (إلا طارقا يطرق بخير يا رحمن)، وقال عكرمة: {هو مضيء ومحرق للشياطين}”.

ب‌) أبواب السماء:

للسماء أبواب جاء ذكرها في رحلة المعراج المذكورة في الصحيحين، حيث كان الرسول صلى الله عليه وسلم في صحبة جبريل عليه السلام، وعند الوصول إلى السماء الأعلى صعودا كان جبريل عليه السلام يستأذن بأن معه الرسول صلى الله عليه وسلم، وذلك عند باب كل سماء فيؤذن لهما. وقد جاء في العديد من الآيات أن السماء تفتح يوم القيامة وتنشق فتكون أبوابا –كما سيأتي أدناه- وذلك لتسهيل حركة الملائكة يومئذ. كما أن لأبواب السماء دورا جاء ذكره في قوله تعالى من سورة الأعراف: (إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآَيَاتِنَا وَاسْتَكْبَرُوا عَنْهَا لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40))، وقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير ما يلي: “قيل: المراد لا يرفع لهم منها عمل صالح ولا دعاء، وقيل: المراد لا تفتح لأرواحهم أبواب السماء، كما جاء في حديث صعود الروح الذي رواه الإمام أحمد عن البراء بن عازب رضي الله عنه. وقال ابن جريج: {لا تفتح لأعمالهم ولا لأرواحهم}، وهذا يجمع بين القولين، والله أعلم”.

ت‌) بروج السماء:

ورد ذكر بروج السماء في القرآن الكريم ثلاث مرات صراحة، ومرة واحدة ضمنا وهي قوله تعالى في سورة التوبة: (إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ …. الآية (36))، حيث أن المعنى المعروف للأبراج هو منازل الشمس والقمر التي يعرف البشر بها الشهور الشمسية والقمرية.

-وقد أقسم تبارك وتعالى بقدرته على جعل السماء ذات بروج في مطلع سورة البروج: (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1))، ويقول مختصر تفسير ابن كثير حول هذه الآية ما يلي: “يقسم تعالى بالسماء وبروجها وهي النجوم العظام، قال ابن عباس: البروج النجوم؛ واختار ابن جرير أنها منازل الشمس والقمر، وهي اثنا عشر برجا تسير الشمس في كل واحد منها شهرا، ويسير القمر في كل واحد منها يومين وثلثا، فذلك ثمانية وعشرون منزلة، ويستتر ليلتين”.

-والموضع الثاني الذي ذُكرت فيه البروج صراحة هو قوله تعالى في سورة الحجر: (وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ (16))، وقد ذكر مختصر تفسير ابن كثير ما يلي: “قال مجاهد وقتادة: البروج هنا هي الكواكب، ومنهم من قال: البروج منازل الشمس والقمر”.

-أما الموضع الثالث فهو في سورة الفرقان: (تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا (61))، وقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير ما يلي: “يمجد تعالى نفسه على جميل ما خلق في السماوات من البروج، وهي الكواكب العظام كما قال مجاهد والحسن وقتادة وسعيد بن جبير، وقيل هي قصور في السماء للحرس وهو مروي عن علي وابن عباس وإبراهيم النخعي، والقول الأول أظهر، إلا أن يكون الكواكب العظام هي قصور الحرس فيجتمع القولان”.

آيات حول السماء يوم القيامة:

جاء في عدة مواضع من القرآن الكريم أن الله تبارك وتعالى أعد الجنة للمتقين، وأعد النار للكافرين، وبناء على ذلك يرى جمهور العلماء أن الجنة والنار موجودتان، وقد استنتج كاتب هذه السطور أن الجنة في السماوات العلى باتجاه عرش الرحمن سبحانه وتعالى، وأن النار في السماوات أو الأرضين السفلى بعيدا عن العرش كما ذكرنا في المخطط المقترح لمفهوم الكون (شكل 1)

مفهوم الكون الكبير.. (29) السماء: الغلاف الجوي والسماوات والكون 6

شكل رقم (1): مخطط مقترح للكون بمعناه الواسع في العلوم الشرعية، مع وصف موجز لمكونات الكون.

((فضلا إذا كان الشكل غير ظاهر: نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))

وسيتم فيما يلي مناقشة تفاصيل هذه القضية وكذلك في مقالات مقبلة حول “القيامة رأي العين”.

وقد استنتج كاتب هذه السطور ذلك المفهوم من حديث مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل الذي أورده مختصر تفسير ابن كثير ضمن شرح قوله تعالى في سورة آل عمران: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133))، حيث يقول المختصر: “وهذه الآية كقوله في الآية 21 من سورة الحديد: (سابقوا إلى مغفرة من ربكم وجنة عرضها كعرض السماء والأرض) الآية. وقد روينا في مسند الإمام أحمد أن (هرقل) كتب إلى النبي صلى الله عليه وسلم إنك دعوتني إلى جنة عرضها السماوات والأرض فأين النار؟ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (سبحان الله، فأين الليل إذا جاء النهار؟)”. ويقول في المختصر أن هذا الحديث محتمل أن يكون له معنيين نختار هنا المعنى الثاني: “أن يكون المعنى أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون في الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش وعرضها كما قال الله عز وجل: (كعرض السماء والأرض)، والنار في أسفل سافلين، فلا تنافي بين كونها كعرض السموات والأرض وبين وجود النار، والله أعلم.

أ‌)   دخان السماء من علامات الساعة:

حول تفسير قوله تعالى في سورة الدخان: (فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّمَاءُ بِدُخَانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هَذَا عَذَابٌ أَلِيمٌ (11)) أورد مختصر تفسير ابن كثير عدة أحاديث صحيحة وأحاديث حسنة حول الدخان، ثم اختار أنه من علامات الساعة، يقول ابن كثير: “عن أبي مالك الأشعري رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن ربكم أنذركم ثلاثا: الدخان يأخذ المؤمن كالزكمة، ويأخذ الكافر فينتفخ حتى يخرج من كل مسمع منه، والثانية الدابة، والثالثة الدجال) رواه ابن جرير وإسناده جيد”.

ب‌) طي وكشط السماء يوم القيامة:

السماء حاليا صلبة مسواه ليس فيها شقوق أو صدوع، أما في يوم القيامة فتحدث أهوال وتتغير الأحوال، فتطوى السماء وتكشط إيذانا ببدء الخلق الجديد في اليوم الشديد، ومن الآيات التي تتناول تلك التغييرات الضخمة قوله تعالى في سورة التكوير: (وَإِذَا السَّمَاءُ كُشِطَتْ (11)) وقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير ما يلي: “قال مجاهد: اجتذبت، وقال السدي: كُشفت، وقال الضحاك: تنكشط فتذهب”.

أما قوله تعالى في سورة الأنبياء: (يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104))، فيقول مختصر تفسير ابن كثير حوله: “عن ابن عباس قال: {يطوي الله السماوات السبع بما فيهن من الخليقة، والأرضين السبع بما فيهن من الخليقة، يطوي ذلك كله بيمينه، ويكون ذلك كله في يده بمنزلة خردلة} أخرجه ابن أبي حاتم، وقوله (كطي السجل للكتب) السجل هي الصحيفة تطوى على الكتاب بمعنى المكتوب، والله أعلم، وقوله (كما بدأنا أول خلق نعيده) ورد في الصحيحين عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: (إنكم محشورون إلى الله حفاة غرلا، كما بدأنا أول خلق نعيده)”.

ت‌)  تشقق وانفراج السماء يوم القيامة:

تأتي هذه النقطة الأخيرة في مناقشة بعض الأمور المرتبطة بالسماء في القرآن في إطار استشراف بعض المعلومات الغيبية عن ذلك البناء العظيم، ويرى كاتب هذه السطور أن علم البشر المحدود بحدود الكون المدرك (الذي لا يمثل إلا أقل من ثلاثة أجزاء من مليون جزء من الكون الكبير)، يرى أن ذلك العلم لا يمكن أن يتضمن أية معلومات عن السماوات السبع والأرضين السبع إلا من خلال الوحي السماوي، وعليه يستوي في ذلك العلم سواء أن كان الكلام عن السماوات السبع والأرضين السبع حاليا (لآنها كلها غيب عدا ما تصل إليه الأدوات البشرية من معلومات عن الكون المدرك)، أو كان ذلك العلم عن أحوال السماء يوم القيامة، فهذا وذاك غيب محض لا يعلم حقيقته إلا الله تبارك وتعالى، ثم من شاء سبحانه أن يعلمه من الرسل الكرام بالوحي الشريف، وعليه يرى كاتب هذه السطور أنه في حدود علم البشر يتساوى نوعي العلم: الغيب المكاني (ما لا تراه أعيننا في الحياة الدنيا، مثل السماوات خارج الكون المدرك)، والغيب الزماني (ما يأتي في النصوص الشرعية من وصف للكون وأحواله يوم القيامة مثلا).

 فهيا بنا نستعرض بعض جوانب الغيب عن السماء في اليوم الآخر (الغيب الزماني) بعد أن استعرضنا بعض جوانب الغيب عن السماء في الحياة الدنيا (الغيب المكاني):

-جاء في العديد من آيات القرآن الكريم أن السماء سوف تنشق وتنفرج وتفتح فيها أبواب يوم القيامة مثل قوله تعالى في سورة الانشقاق: (إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ (1))، وفي سورة الحاقة: (وَانْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ وَاهِيَةٌ (16))، ونلاحظ زيادة كلمة (واهية) في هذه الآية مما يشير إلى أن السماوات في الدنيا كانت شديدة وصلبة وليست واهية؛ وفي سورة الفرقان جاء قوله تعالى: (وَيَوْمَ تَشَقَّقُ السَّمَاءُ بِالْغَمَامِ وَنُزِّلَ الْمَلَائِكَةُ تَنْزِيلًا (25))، وقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير حول هذه الآية ما يلي: “يخبر تعالى عن هول يوم القيامة وما يكون فيها من أمور عظيمة، فمنها انشقاق السماء وتفطرها وانفراجها بالغمام، وهو ظل النور العظيم الذي يبهر الأبصار؛ ومنها نزول ملائكة السماوات يومئذ فيحيطون بالخلائق في مقام الحشر”.

-وجاء تفطر السماء في قوله تعالى من سورة الانفطار: (إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ (1)) قال في مختصر ابن كثير: أي انشقت؛ وفي قوله تعالى من سورة المزمل: (السَّمَاءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كَانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا (18))، جاء في مختصر ابن كثير: أي (السماء) متشقق من شدة (ذلك اليوم) وهوله.

-أما انفتاح السماء وانفراجها فقد جاء في قوله تعالى من سورة المرسلات: (وَإِذَا السَّمَاءُ فُرِجَتْ (9)) وقال مختصر ابن كثير: أي فطرت وانشقت وتدلت أرجائها ووهت أطرافها؛ وفي قوله تعالى من سورة النبأ: (وَفُتِحَتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ أَبْوَابًا (19)) وجاء في مختصر ابن كثير: أي طرقا ومسالك لنزول الملائكة.

-ومن التغيرات الهائلة في السماء يوم القيامة أنها تمور وتصير كالمهل، وقد جاء ذلك في قوله تعالى من سورة الطور: (يَوْمَ تَمُورُ السَّمَاءُ مَوْرًا (9)) وقال مختصر تفسير ابن كثير هنا ما يلي: “قال ابن عباس: تتحرك تحريكا، وقال مجاهد: تدور دورا، وقال الضحاك: استدارتها وتحركها لأمر الله وموج بعضها في بعض، وهذا اختيار ابن جرير التحرك في استدارة”. وجاء صيرورة السماء كالمهل في قوله تعالى من سورة المعارج: (يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاءُ كَالْمُهْلِ (8))، قال مختصر ابن كثير: “قال ابن عباس ومجاهد: كدردي الزيت”.

-ويظن كاتب هذه السطور أن آية سورة الرحمن تكمل هذه القصة: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37)) حيث يقول مختصر تفسير ابن كثير حول هذه الآية: “(فكانت وردة كالدهان) أي تذوب كما يذوب الدردي (قال الصابوني: الدردي ما يركد في أسفل كل مائع كالشراب والأدهان) والفضة في السبك، وتتلون كما تتلون الأصباغ التي يدهن بها…. وقال ابن جريج: تصير السماء كالدهان الذائب، وذلك حين يصيبها حر جهنم”. وقال القرطبي حول هذه الآية أيضا: “والمعنى أنها صارت في صفاء الدهن، والدهان على هذا جمع دهن. وقال سعيد بن جبير وقتادة: المعنى: فكانت حمراء. وقيل: المعنى تصير في حمرة الورد وجريان الدهن، أي تذوب مع الانشقاق حتى تصير حمراء من حرارة نار جهنم ، وتصير مثل الدهن لرقتها وذوبانها”.

ويظن كاتب هذه السطور أن تلك السماء التي تذوب من حرارة نار جهنم لا بد أنها سماء الأرضين السبع في نصف الكون السفلي بعيدا عن العرش، بالتالي يكون تشقق السماء في جهة الجنة والنعيم مجرد انفراج لإيجاد الأبواب والطرق لحركة الملائكة، أما في جهة الجحيم فيكون الانصهار للسماء الصلبة من حر جهنم، وهذا ما سيتم عرضه للبحث لاحقا للتأكيد أو التراجع إن لم يكن هذا الرأي موافقا لأراء العلماء والأئمة. وبالله التوفيق.

الخلاصة:

السماء هي كل جرم علوي، وتأتي في القرآن الكريم للإشارة إلى الغلاف الجوي للكرة الأرضية، وللسماء الدنيا والسماوات والعرش، والمتأمل في خلق السماء والأرض وما بينهما يستشعر الحكمة الإلهية في جعل الجنة في السماوات العلى ويستعيذ به عز وجل من النار التي هي في أسفل سافلين (انظر المخطط المقترح للكون، شكل 1). والسماوات عبارة عن قشرات كروية سميكة شديدة الصلابة، ومزينة بالكواكب، وليس فيها فروج أو شقوق، وهي ذات رجع متعدد الأشكال بما يحقق الكثير من الفوائد والأرزاق للبشر، وفي السماء أعمال وشؤون للخلق تتم بتسخير الملائكة، وتتنزل بينها الأقدار من اللوح المحفوظ للسماء الدنيا، ومن تلك الشؤون ما فيها من جنود وأبواب وبروج جعلها الله لتسيير أمور الخلق في الدنيا والآخرة، ففي الدنيا تتنزل الجنود بالدعم والخيرات للمتقين، كما تنزل بالعذاب للكافرين، وتصعد أرواح وأعمال المؤمنين بواسطة الملائكة من أبواب السماوات بينما توصد تلك الأبواب عن أرواح وأعمال الكافرين، والبروج أو منازل الشمس والقمر جعلها الله لمعرفة السنين والحساب.

وقد استنتج الباحث من دراسة النصوص الشرعية أن الجنة والنار موجودتان الآن، كما استنتج من مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم لهرقل، ومن إجابته صلى الله عليه وسلم على استفسار ملك الروم: فأين النار؟ استنتج أن الجنة في السماوات العلى وأن النار في النصف السفلي من السماوات بعيدا عن العرش، وذكر الباحث من تفسير ابن كثير ما يدعم تلك الاستنتاجات. أما عن أحوال السماء يوم القيامة فقد ذكر البحث أن الدخان من علامات الساعة، وأن كشط السماء وطيها من أحداث القيامة، وأن السماء تتشقق وتفتح أبوابا يوم القيامة لنزول الملائكة، ويرى الباحث أن إطار الغيب يحيط بما نعرفه عن السماوات العلى وعن الكون ويحيط أيضا بما نعرفه عن أحداث القيامة، وحيث أن مصدرنا عن هذه الأمور الغيبية هو الوحي الشريف: فلنقرأ القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة، ولنتفكر ولنستنتج منهما ما يوضح للبشر جميعا عظمة الخلق والخالق سبحانه وتعالى؛ ومن ذلك استنتج المؤلف أن الانفراج وتكوين الأبواب يكون في السماوات العلى تكريما للمؤمنين، وذلك لقيام الملائكة برفعهم إلى الجنات –كل حسب مقامه-، بينما انشقاق السماء من حرارة جهنم لتصبح وردة كالدهان يكون في جهة الأرضين والنار والعياذ بالله.

المراجع:

-مراجع التفسير والحديث الشريف المذكورة في النص.

.

مفهوم الكون الكبير.. (29) السماء: الغلاف الجوي والسماوات والكون 7

بقلم: د.سعد كامل

أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر

saadkma2005@yahoo.com

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

  1. رائع دكتور سعد بحث يشمل آيات القرآن التي تدعمه وتدخل العقل بسهولة ويسر بارك الله فيكم وجزاكم الله خيرا

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.