البحث العلمى

مفهوم الكون الكبير (45) …حول الكون في الدار الآخرة

الحلقة الثالثة: النفخ في الصور والبعث والحشر

بقلم: د.سعد كامل 

الصيحة والنفخ في الصور:

إذا كانت أشراط أو علامات الساعة الصغرى تحمل إشارات على اقتراب وقوع الساعة، فإن أشراط الساعة الكبرى جعلها الله تبارك وتعالى مثل النداء الأخير أو الفرصة الأخيرة للناس حتى يعودوا إلى ربهم قبل أن تقع الساعة حيث لا توبة ولا ندم. وبعد أن يزداد الفساد فإن الرب الرحيم يرسل للناس الفرصة تلو الأخرى من العلامات الكبرى لعلهم يعودون إلى الحق والإيمان قبل قيام الساعة… إذا كانت علامات الساعة كذلك فإن النفخ في الصور هو أول أحداث اليوم الآخر، وقد ذكره القرآن الكريم في قوله تعالى من سورة الحاقة: (فَإِذَا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ (13))، وأول النفخات هي نفخة الفزع التي يفزع منها جميع من في السماوات والأرضين، ثم يليها نفخة الصعق التي يصعق لها من في السماوات والأرض إلا من شاء الله، وأخيرا نفخة القيام أو البعث، ويقول مختصر تفسير ابن كثير أن النفخات ثلاثة لكن الله عز وجل يؤكدها هنا في آية الحاقة بواحدة لأن أمر الله لا يخالف ولا يمانع، ولا يحتاج إلى تكرار وتأكيد.

والملك الموكل بالنفخ في الصور هو إسرافيل كما جاء في الأحاديث، وعن مدى استعداده -عليه السلام- للنفخ في الصور روى أبو هريرة إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن طرفَ صاحبِ الصورِ منذُ وُكّلَ بهِ مُستعدّ ينظرُ نحو العرشِ، مخافةَ أن يُؤمَرَ قبل أن يَرتدّ إليهِ طرفهُ، كأنّ عينيهِ كوكبانِ دُرّيانِ)) أخرجه الألباني في السلسلة الصحيحة رقم – 1078 وقال إسناده صحيح. والنفخ في الصور يعتبر حدثا كونيا ضخما، فالملك ينفخ في الصور فيسمع الصيحة جميع من في السماوات والأرضين فما أعظم هذا المخلوق الذي يصدر صوتا يهذه القوة؟

 البعث والحشر:

تتفاوت أعمال البشر في هذه الحياة الدنيا بين الصواب والخطأ، وبين الحلال والحرام، وبين العدل والظلم، وبين الحكمة والضلال … فإذا انتهت الحياة دون حساب يحقق العدل بين الظالمين والمظلومين، وبين المؤمنين والكافرين، فعند ذلك لا تتحقق أية حكمة من هذه الحياة، وحيث أن الله تبارك وتعالى هو العدل وهو الحكيم وهو الكريم، فقد جعل نظام الكون يقوم على العدل والحق كما قال تعالى في سورة الرحمن: (وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ (7))، وجعل سبحانه وتعالى الجنة في السماوات العلى ناحية العرش المجيد، والنار في السماوات السفلى بعيدا عن العرش المجيد (الصورة المرفقة)، ونصب الصراط بينهما حتى يمر عليه البشر بعد الحشر والحساب فمنهم من يمر على الصراط كالبرق، ومنهم من تمنعه أثقاله من الانطلاق فيتعثر وقد يقع في الجحيم والعياذ بالله.

وقد جعل الخالق عز وجل حركة الخلق في يوم القيامة زمرا وأفواجا، ويظن كاتب هذه السطور أن ذلك يتوافق مع كون السماوات طباقا علويا وسفليا فكل فوج يصير إلى ما يستحق من درجات النعيم أو دركات الجحيم، مع الظن أن الانتقال لهذه المسافات الهائلة (وحدة المسافات الكونية تساوي نصف قطر الكون المدرك)، فهذا الانتقال يمكن أن يتم للمؤمنين بواسطة الملائكة الكرام وفق ما يمكن فهمه من قوله تعالى من سورة الزمر: (وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73))، بينما يترك الكافرين ليقعوا في الهاوية أزمنة مديدة حتى يصل كل منهم إلى المكانة التي يستحقها من الجحيم.

سبحانك ربي ما أعدلك وما أرحمك، أنزلت من الوحي إلى رسولك تفاصيل البعث والحشر والحساب حتى لا يكون لأحد حجة أنه لم يعلم إلى أين المصير؟ فهاهو إسرافيل يلتقم الصور ناظرا إلى العرش حتى يأتيه الأمر بالنفخ إيذانا ببدء اليوم العظيم، يوم الحساب، وعند الوقت الفصل ينفخ الملك الكريم في الصور نفخة الفزع، يليها بوقت لا يعلمه إلا الله نفخة الصعق حيث يموت جميع من في السماوات والأرضين -إلا من شاء الله-، وبعد ذلك أيضا بوقت لا يعلمه إلا الله ينفخ نفخة البعث كما قال تعالى في سورة الزمر: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68))، هنا تلتقي الأرواح بأجسادها، ويقومون للحساب، وهاهي  النار التي تحشر الناس إلى محشرهم تبدأ من قعر اليمن وتدفع الناس من كل مكان على سطح الكرة الأرضية إلى أرض المحشر ببيت المقدس، قال تعالى في سورة ق: (وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42)) وقد جاء في مختصر تفسير بن كثير : قال كعب الأحبار: يأمر الله تعالى ملكا أن ينادي على صخرة بيت المقدس: “أيتها العظام البالية والأوصال المتقطعة، إن الله يأمركن أن تجتمعن لفصل القضاء”.

ومن بشريات المؤمنين في موقف البعث والحشر ما جاء في قوله تعالى من سورة الأنبياء: (لَا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَتَتَلَقَّاهُمُ الْمَلَائِكَةُ هَذَا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّمَاءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْدًا عَلَيْنَا إِنَّا كُنَّا فَاعِلِينَ (104))، جاء في مختصر تفسير ابن كثير أن المراد بالفزع الأكبر قد يكون الموت، أو النفخة في الصور، أو دخول النار أعاذنا الله منها جميعا، أما قوله تعالى (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) يختار ابن كثير أن السجل هو الصحيفة، ويكون المقصود كطي السجل للكتاب، أي على المكتوب، وقوله تعالى (كما بدأنا أول خلق نعيده) أي يوم يعيد الخلائق خلقا جديدا، عن ابن عباس قال: قام فينا رسول الله صلى الله عليه وسلم بموعظة فقال: ((إنكم محشورون إلى الله عز وجل حفاة عراة غرلا، كما بدأنا أول خلق نعيده… الحديث))أخرجه الشيخان والإمام أحمد.

طي السماوات وقبض الأرضين ليس انسحاقا.

يعتبر بعض العلماء أن هذه آية طي السماوات تعتبر من ضروب الإعجاز العلمي في القرآن الكريم، وذلك لأنهم يعتبرون قوله تعالى (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) يتفق مع إحدى نتائج نظرية الانفجار الكبير التي تقول أن الكون يمر بدورات توسع أو انفجار (Big Bang) ودورات انسحاق (Big Crunch)، وهم بذلك يفسرون قوله تعالى (كما بدأنا أول خلق نعيده) على أنه يشير غلى عودة الكون إلى ما قبل الانفجار -المزعوم- إلى كتلة عالية الكثافة وشديدة الحرارة أو ما يعرف بالانسحاق الكبير… فإذا كانت نظرية الانفجار الكبير لا تقوى على الاستمرار نظرا للاعتراضات الكثيرة عليها المذكورة في مقال سابق من هذه السلسلة بعنوان: هل الملائكة تحمل الكون؟ وعليه يوصي الباحث بإعادة النظر في هذه الاستنتاجات، مع الاكتفاء بالمعنى الوارد في الحديث النبوي عن عودة الخلق حفاة عراة غرلا، مع التوصية أيضا بالتوسع في البحث حول معنى طي السماء وقبض الأرضين، فلا شك أن العلم الشرعي فيه الكثير من الكنوز التي لم نقوم باستكشافها كاملة حتى الأن.

ويجب أن نؤكد هنا على حقيقة أن نظرية الانفجار الكبير تتناول نشأة الكون المدرك فقط… أما السماوات السبع والأرضين السبع فليس لها ارتباط بتلك النظرية -إلا من بعض الآراء التي تقول أن الانفجار نتج عنه نشأة السماوات السبع مثل عمري (2004)-، فإذا افترضنا جدلا أن نظرية الانفجار صحيحة، فالانسحاق هو انهيار بنية السماوات إلى كرة صغيرة، بينما الآية تقول (يوم نطوي السماء كطي السجل للكتب) فهل يمكن القول أن طي السماء وقبض الأرضين يعتبر انسحاقا؟

كما أن الجنة التي خلقها الله عز وجل في السماوات العلى خالدة ولن يكتب عليها الفناء، وقد يكون طي السماوات يشير إلى تغير ما في هذه السماوات لتتناسب مع استقبال المؤمنين في الجنات العلى، وكذلك النار في السماوات السفلى مخلوقة للخلود، فلا يمكن أن تفنى تماما بالانسحاق المزعوم، وقد يكون تبديل السماوات السفلى الذي جاء في قوله تعالى من سورة إبراهيم: (يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ (48))، عبارة عن تغير ما في تلك السماوات السفلى لاستقبال الضالين في نار الجحيم، والله أعلم.

الخلاصة:

يشير مخطط الكون الكبير (الصورة المرفقة)، الذي يطرحه البحث الحالي للتمحيص توطئة لتطبيقه في المجالات ذات العلاقة، يشير ذلك المخطط إلى أن الجنة في السماوات العلى باتجاه العرش المجيد، وأن النار في الأرضين السبع السفلى بعيدا عن العرش، وبذلك تكون الجنة والنار غيبا مكانيا في الوقت الحاضر، كما أن أحداث القيامة تعتبر غيبا زمانيا لأنها لم تقع بعد، لكننا نؤمن بكلا الجانبين من الغيب كالحقيقة سواء بسواء.

ثم يشير المقال إلى بدايات أحداث يوم القيامة، وأول تلك الأحداث هي الصيحة والنفخ في الصور (ثلاث نفخات: الفزع والصعق والقيام)، وتلك النفخة التي يصدرها إسرافيل -عليه السلام- تصل إلى جميع من في السماوات والأرضين، فما أعظمها من نفخة؟

أما أول أعمال يوم القيامة فالحشر عند بيت المقدس استعدادا للحساب، وإيذانا بالتغيرات الكونية العظمى من أهوال يوم القيامة، التي ليس منها انسحاق الكون، لأن طي السماء ليس انسحاقا… والله أعلم.

المراجع:

  • مراجع التفسير والحديث الشريف المذكورة في النص.
  • عمري، حسين (2004): خلق الكون بين الآيات القرآنيّة والحقائق العلميّة، مؤتة للبحوث والدّراسات (سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعيّة)، المجلد 19، العدد 4 ، ص 11 –41 .
  • كامل، س. (2022): سلسلة مقالات حول مفهوم الكون الكبير: (39 – 42) هل الملائكة تحمل الكون؟ موقع وضوح الإخباري.
  • بقلم: د.سعد كامل

    أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر

    saadkma2005@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.