البحث العلمىالصراط المستقيم

مفهوم الكون الكبير (48) من مواقف القيامة: الميزان والصراط والقنطرة

بقلم: د.سعد كامل

تناول المقال السابق سنة الحشود والجماعات، حيث يجتمع المسلمون في الصلوات وفي صلاة الجمعة، وفي صلاة العيدين وغيرها، كما أن هناك حشدا سنويا يجتمع فيه المسلمين من شتى بقاع الأرض في مكة المكرمة لأداء مناسك الحج… ويشاء المولى عز وجل أن تبدأ أعمال يوم القيامة بالحشد الأكبر الذي يجتمع فيه جميع الخلائق منذ بدأ الخلق إلى يوم البعث. ثم استعرض المقال بعض بشريات المؤمنين في ذلك اليوم العظيم، ثم ذكر المقال موقف الشفاعة مع التركيز على الشفاعة العظمى للرسول صلى الله عليه وسلم، ومن ثم انتقل المقال إلى مشهد الحساب حيث يقف الخلائق بين يدي الله تعالى، ويستلموا كتبهم باليمين للمؤمنين، وبالشمال للطالحين الذين يُسألون سؤال توبيخ، ثم يأتي موقف الشرب من حوض النبي صلى الله عليه وسلم، والحوض طول ضلعه يصل إلى آلاف الكيلومترات، وآنيته بعدد النجوم.

ونستكمل اليوم بعض مواقف القيامة وتتضمن: الميزان، والصراط، والقنطرة.

الميزان:

قال تعالى في سورة الأنبياء: (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِنْ كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ (47))، قال العلماء: وإذا انقضى الحساب كان بعده وزن الأعمال، والوزن لإظهار مقاديرها ليكون الجزاء بحسبها، وهذا الميزان هو ميزان حقيقي، لا يقدر قدره إلا الله عز وجل، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((يوضع الميزان يوم القيامة، فلو وزن فيه السماوات والأرض لوسعت، فتقول الملائكة: يا رب لمن يزن هذا؟ فيقول الله تعالى: لمن شئت من خلقي، فتقول الملائكة: من تجيز على هذا؟ فيقول: من شئت من خلقي، فيقولون: ما عبدناك حق عبادتك)) ذكره الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة. فكم هو عظيم ذلك الميزان.

ونستشعر من وصف الحوض والميزان أن كل شيء من متعلقات اليوم الآخر فهو عظيم في شانه وتجهيزه لأعظم يوم من أيام الخلق… إنه يوم الحساب الدقيق العادل عند مليك مقتدر سبحانه وتعالى. فهذا الميزان الحق يزن الأعمال بإخلاص صاحبها، وقد ورد في الحديث قصة أحد الناس الذي لا تنقذه أعماله من النار، فقد جاء إلى يوم الحساب بسجلات طويلة من السيئات، لكن تنقذه بطاقة مكتوب فيها أنه قال لا إله إلا الله مرة مخلصا، فتوضع في الميزان فيميل الميزان وينجو الرجل من النار. قال تعالى في سورة القارعة: (فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11))، فنسأل الله أن يثقل موازيننا يوم الدين. والتسبيح من الأعمال التي تثقل الموازين، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم ((الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسيحان الله والحمد لله تملآن -أو تملأ- ما بين السماوات والأرض، والصلاة نور، والصدقة برهان، والصبر ضياء، والقرآن حجة لك أو عليك، كل الناس يغدو: فبائع نفسه، فمعتقها أو موبقها)) رواه مسلم في باب فضل الوضوء.

الصراط والقنطرة:

قال تعالى في سورة مريم: (وَإِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وَارِدُهَا كَانَ عَلَى رَبِّكَ حَتْمًا مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَنَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيهَا جِثِيًّا (72))، تشير الآية الأولى -كما ورد في شرح النووي على صحيح مسلم- إلى المرور على الصراط، وهو جسر منصوب على جهنم، فيقع فيها أهلها، وينجو الآخرون كما تشير إلى ذلك الآية الثانية، فإن الله تبارك وتعالى ينجي الذين اتقوا بفوزهم بالجنة ويترك الظالمين راكعين في جهنم والعياذ بالله، ويظن الباحث أن الصراط المنصوب على جهنم عبارة عن أحبال مشدودة في السماء على المستوى الاستوائي للسماوات السبع، والذين يمرون عليه يسعون بسرعات متفاوتة حسب أعمالهم، فالظالمين يسقطون لأسفل إلى الجحيم، أما الفائزين فيمرون بسرعة عالية حتى يصلوا إلى الجنة في السماوات العلى، والله أعلم.

ويحضرني في هذا السياق كلام بعض الفيزيائيين المنبهرين باتساع الكون المدرك، والذين يفكرون في اختراع مصعد للسماء يمكن الانزلاق عليه لأعلى بسرعة الضوء، ويقترحوا أن يستخدم في صناعة ذلك المصعد أحبال فائقة الدقة من الأنابيب النانونية الكربونية، لكن الذي يمنع هؤلاء من صناعة تلك المصاعد هو عدم توفر وسائل تكنولوجية لصناعة أطوال كبيرة من هذه الأحبال النانوية، ويذكر مؤلف كتاب فيزياء المستحيل أنهم لم يستطيعوا صناعة إلا حبلا طوله مترين على الأكثر (كاكو، 2013)، كما تواجههم مشكلة أخرى في توفير الطاقة اللازمة لرفع المسافرين إلى الفضاء عبر تلك المصاعد، كما اقترح البعض بناء مسار يشبه سكة القطار في الفضاء، يقوم هذا المسار بتخزين الطاقة الشمسية ثم يفرغها بشكل مفاجئ في مخزن الوقود لمركبة فضائية فتندفع بسرعة تصل إلى ثلث سرعة الضوء، وقد أطلقوا على هذا المسار اسم المدفع السككي الفضائي، ويعتقد مؤلف الكتاب المذكور أن ذلك وإن كان مستحيلا في الوقت الحاضر فإنه قد يتحقق خلال عدة قرون أو في بعض الألفيات المستقبلية (كاكو، 2013).

ولا ننسى أنهم حتى وإن استطاعوا تحقيق حلم ذلك السفر بسرعة تضاهي سرعة الضوء فإن الأمر يتطلب وجود أشخاص من المسافرين يمكنهم تحمل السفر بتلك السرعة، وايضا يجب أن يطول أعمار هؤلاء المسافرين ليتمكنوا من الخروج من مجرة التبانة بسرعة الضوء خلال 30 ألف سنة، ثم يحتاج هؤلاء المسافرون إلى ملايين السنين للتنقل بين المجرات… فما بالكم بأن هذه الوسائل موجودة فعلا والصراط سوف ينصب في الفضاء الكوني لسفر الناس يوم القيامة إلى أعلى عليين، بينما المجرمين سوف يسقطون إلى جهنم ويتجلجلوا فيها دهورا…. فما لهم كيف يحكمون؟

قال تعالى في سورة التحريم: (…يَوْمَ لَا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعَى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَبِأَيْمَانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا أَتْمِمْ لَنَا نُورَنَا وَاغْفِرْ لَنَا إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (8))، جاء في تفسير ابن كثيرعن قوله تعالى (يسعى نورهم بين أيديهم): على قدر أعمالهم، يمرون على الصراط، منهم من نوره مثل الجبل، ومنهم من نوره مثل النخلة، ومنهم من نوره مثل الرجل القائم، وأدناهم نورا من نوره في إبهامه يتقد مرة ويطفأ مرة. روى البخاري عن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((…. ثم يُضرب الجسر على جهنم، وتحل الشفاعة، ويقولون اللهم سلم سلم؛ قيل يا رسول الله وما الجسر؟ قال: دحض مزلة فيه خطاطيف وكلاليب وحسك، تكون بنجد بها شويكة يقال لها السعدان، فيمر المؤمن كطرف العين، كالبرق، وكالريح، وكأجاويد الخيل والركاب، حتى إذا خلص المؤمنون من النار، فو الذي نفسي بيده ما منكم من أحد بأشد مناشدة لله في استقصاء الحق من المؤمنين لله يوم القيامة لإخوانهم في النار، يقولون ربنا كانوا يصومون معنا ويصلون ويحجون، فيقال لهم: أخرجوا من عرفتم فتحرم صورهم على النار، فيخرجون خلقا كثيرا قد أخذت النار إلى نصف ساقيه وإلى ركبتيه، ثم يقولون ربنا ما بقي فيها أحد ممن أمرتنا به)).

إن المرور على الصراط خطب شديد وموقف عجيب، فهل يتفكر أحدنا ويستحضر بفؤاده ما سيحل به من الفزع إذا رأى الصراط ودقته، وكيف يتخيل أنه فوق هذا الخيط الحاد كأنه نصل سيف، فإذا نظر لأسفل سوف يرى الهاوية من ارتفاع شاهق يبدو منها سواد جهنم لأسفل، وفي الخلفية يرتفع صوت شهيق النار وتغيظها، فيرتجف المار على الصراط وتتزلزل قدماه، كما أنه يحمل فوق ظهره الأوزار المانعة له من المشي على بساط الأرض، فما بالك بحدة الصراط؟ وكيف بك والخلائق بين يديك يزلون ويعثرون، وتتناولهم زبانية النار بالخطاطيف والكلاليب، وأنت تراهم يسقطون في الهاوية رؤوسهم لأسفل وأرجلهم لأعلى، فياله من منظر ما أفظعه؟ ومرتقى ما أصعبه؟ ومجاز ما أضيقه؟ (انظر الصلابي، 2011).

ثم بعد المرور على الصراط يتوقف حشد الناجين من الهاوية عند قنطرة قبل دخول الجنة، لتهذيبهم وتنقية ما بينهم من مظالم، حتى إذا دخلوا الجنة كانوا أطهارا أبرارا، فتتخلص قلوبهم من الغل تجاه بعضهم بعضا، كما يقول تعالى في سورة الأعراف: (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ … الآية (43))، وروى البخاري في كتاب الرقائق قول الرسول صلى الله عليه وسلم: ((يخلص المؤمنون من النار؛ فيحبسون على قنطرة بين الجنة والنار؛ فيقتص لبعضهم من بعض مظالم كانت بينهم في الدنيا؛ حتى إذا هذبوا ونقوا أذن لهم في دخول الجنة؛ فو الذي نفس محمد بيده لأحدهم أهدى بمنزله في الجنة منه بمنزله كان في الدنيا)). ويقول الصلابي (2011) أن الناس بعد تجاوز قناطر الصراط على نوعين:

 

  • أهل الأعراف فهؤلاء الذين تساوت حسناتهم وسيئاتهم، يقفون على سور بين النار والجنة، قال تعالى في سورة الأعراف: (وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ (46)).
  • وأهل الجنة الذين رجحت حسناتهم سيئاتهم فيدخلون جنة النعيم.

الخلاصة: 

بعد الحساب ينصب الميزان لوزن الأعمال، وهو ميزان هائل يسع السماوات السبع، ودقيق يزن الأعمال مهما صغرت، ويزن الأعمال بما فيها من نوايا طيبة، وذلك مثل البطاقة التي رجحت سجلات السيئات وكانت سببا في قبول العبد في رحاب جنة النعيم.

وبعد ذلك يبدأ الطريق إلى النعيم أو إلى الجحيم، وذلك بالمرور على الصراط أو الجسر المنصوب على جهنم (مثل الأحبال النانوية التي يحلم باختراعها الفيزيائيين لتكون مصاعد للسماء)، وهو أحد من السيف، وأدق من الشعرة، وعليه خطاطيف تسحب أهل النار منه وتلقي بهم في الهاوية، ويظن الباحث أن تكون أحبال الصراط منصوبة فوق جهنم على امتداد المستوى الاستوائي للسماوات السبع حيث سوف يقع في النار أهلها، أما الناجون فإلى جنة الخلد، لكن قبل دخول الجنة يقفون على قنطرة لتهذيبهم وتنقية ما بينهم من المظالم، حتى يدخلوا الجنة أطهارا منزوع من قلوبهم ما فيها من غل.

المراجع:

  • مراجع التفسير والحديث الشريف المذكورة في النص.
  • إحياء علوم الدين لأبي حامد الغزالي (450 هـ – 505 هـ).
  • الصلابي، ع (2011): سلسلة أركان الإيمان، (5) الإيمان باليوم الآخر (فقه القدوم على الله)، دار المعرفة، بيروت – لبنان، 435 ص.
  • كاكو، ميشيو (2013): فيزياء المستحيل، ترجمة د.سعد الدين خرفان، من منشورات عالم المعرفة، الكويت، 363 ص.

مفهوم الكون الكبير (48) من مواقف القيامة: الميزان والصراط والقنطرة 2

بقلم: د.سعد كامل

أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر

saadkma2005@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم خدمة أكيسميت للتقليل من البريد المزعجة. اعرف المزيد عن كيفية التعامل مع بيانات التعليقات الخاصة بك processed.