مفهوم الكون الكبير (49) الجنة والنار: دعوة للتفكر
سر الربط بين خلق السماوات والأرض وبين تعاقب الليل والنهار
بقلم: د.سعد كامل
التفكر حول الجنة والنار ضمن مفهوم الكون:
وقف كاتب هذه السطور كثيرا عند آيات التفكر من سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191))، وقد استلهم كاتبنا من مفهوم الكون الكبير الذي تعرضه هذه السلسلة من المقالات، استلهم أحد المعاني الممكنة للجمع في الآية 190 بين (خلق السماوات والأرض) وبين (اختلاف الليل والنهار)، وقد بنى هذا المعنى على سؤال بسيط: لماذا يربط الحق سبحانه وتعالى هنا بين خلق السماوات والأرض وبين اختلاف الليل والنهار؟ ففي السماوات والأرض أيات لا تعد ولا تحصى من معادن وصخور، وحيوانات ونباتات، وإنس وجن وملائكة، وسحب وجبال، ونور وظلام، وليل ونهار… وغير ذلك الكثير والكثير.
لكن يأتي هنا الربط بين خلق السماوات والأرض وبين اختلاف الليل والنهار، أو تعاقب الليل والنهار، فما هو السر في هذا الربط؟… يعتقد كاتبنا أن السر في ذلك هو تحقق أو وجود شيء ما في السماوات والأرض يتفق بشكل أو بآخر مع تعاقب الليل والنهار.
وللبحث عن إجابة لهذا السؤال نذهب إلى مسند الإمام أحمد الذي جاء فيه أن هرقل كتب للنبي صلى الله عليه وسلم فقال: إذا كانت الجنة عرضها السموات والأرض فأين تكون النار؟ فقال صلى الله عليه وسلم: “إذا جاء الليل فأين يكون النهار؟”، ويتضح من هذه الإجابة الموجزة للنبي الكريم صلى الله عليه وسلم عدة مفاهيم منها كروية الجزء من الكون الذي يضم جنة الخلد في السماوات السبع العُلَى، حيث نفهم من حديث الإسراء الوارد في صحيح البخاري ومسلم أن الجنة في السماوات العلى، ونفهم أيضا أن الجنة في السماوات العلى من أحاديث وآثار أخرى كثيرة استعرض البحث بعضها في مقالات سابقة، وسيتم ذكر بعضها لاحقا بإذن الله، والنار أو الجحيم في الجهة المقابلة للسماوات العُلى، وهي أسفل سافلين بالنسبة للعرش، بالتالي إذا كانت جنة الخلد في النصف العلوي من السماوات السبع فوق الأرضين السبع العليا باتجاه العرش، فإن الجحيم يكون في النصف السفلي من السماوات السبع فوق الأرضين السفلى بعيدا عن العرش.
من كلام أهل التفسير حول هذا المعنى:
جاء في تفسير ابن كثير حول قوله تعالى من سورة آل عمران: (وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133))، روي عن أبي هريرة قال: جاء رجل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: أرأيت قوله تعالى: (جنة عرضها السماوات والأرض) فأين النار؟ قال: ((أرأيت الليل إذا جاء لبس كل شيء، فأين النهار؟)) قال: حيث شاء الله. قال: ((وكذلك النار تكون حيث شاء الله عز وجل))، ويذكر ابن كثير أن هذا يحتمل معنيين:
أحدهما: أن يكون المعنى في ذلك: أنه لا يلزم من عدم مشاهدتنا الليل إذا جاء النهار ألا يكون في مكان، وإن كنا لا نعلمه، وكذلك النار تكون حيث يشاء الله عز وجل، وهذا أظهر (وفق رأي الإمام ابن كثير، لكن كاتب هذه السطور يرى أن المعنى التالي هو الأظهر، انظر الشكل المرفق أعلاه).
الثاني: أن يكون المعنى: أن النهار إذا تغشى وجه العالم من هذا الجانب، فإن الليل يكون من الجانب الآخر، فكذلك الجنة في أعلى عليين فوق السماوات تحت العرش، وعرضها كما قال الله، عز وجل (كعرض السماء والأرض) سورة الحديد:21، والنار في أسفل سافلين. فلا تنافي بين كونها كعرض السماوات والأرض، وبين وجود النار، والله أعلم
استنتاج أن للكون اتجاهين
وبناء على ذلك استنتج كاتبنا أن للكون اتجاهين (الشكل المرفق ) أحدهما لأعلى ويشير إلى مكان وجود الجنة باتجاه العرش، والآخر لأسفل ويشير إلى مكان وجود النار، وحيث أن السماوات السبع تأخذ الشكل الكروي فيمكن فهم الهدف من الجمع بين خلق السماوات والأرضين وبين اختلاف الليل والنهار، وهذا يوضح أن أهم شيء خلقه الله تبارك وتعالى في السماوات والأرضين هو الجنة والنار، وأن العلاقة بينهما تشبه العلاقة بين الليل والنهار في تعاقبهما الواحد تلو الآخر لساكني الكرة الأرضية التي تدور فيتعاقب الليل والنهار عليهم، وكذلك لو كانت السماوات والأرضين تدور، أو كان المشاهد يدور حولهما، فسوف يتعاقب للمشاهد من خارجهما مشهد الجنة مرة ثم مشهد النار مرة أخرى، فهما مبنيان على جسم كروي، ويحق عليهما أنهما كعرض السماوات والأرض، والله أعلم.
ويرتبط هذا المفهوم عن وجود الجنة في السماوات العلى، والنار في السماوات السفلى بما جاء في بداية سورة الواقعة: (إِذَا وَقَعَتِ الْوَاقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِهَا كَاذِبَةٌ (2) خَافِضَةٌ رَافِعَةٌ (3))، وهذا وصف للقيامة كما نعلم فهي الواقعة التي ستقع فعلا ولن يمنع وقوعها ما يقوله المكذبون بيوم الدين، وهذه الواقعة خافضة رافعة، فهي سوف تخفض أقواما لأسفل سافلين إلى النار والعياذ بالله، وأيضا هي رافعة سوف ترفع أقواما إلى جنة النعيم، وعدنا الله وإياكم بها.
كما نلاحظ أن الآية التالية (رقم 191) من سورة آل عمران يأتي فيها رد فعل أولي الألباب بعد هذا التفكر الذي يرون فيه أن الجنة في السماوات العلى، وأن النار في السماوات السفلى: (الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191))، نلاحظ أنهم يتضرعون إلى المولى عز وجل بطريقة تليق بهذا السياق وهي أنهم يشهدون أنه سبحانه وتعالى لم يخلق تلك السماوات ياطلا، ويظن كاتب هذه السطور أن هذه الصيغة في الإقرار بأن خلق السماوات حق لا يشوبه باطل، يظن أن هذه صيغة راقية للطلب من المولى عز وجل أن يجعل الجنة هي دارهم، وقبل أن يختتم المشهد يدعون ربهم ويتضرعون إليه أن يحميهم ويقيهم من عذاب النار.
الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن:
قال صاحب العقيدة الطحاوية: “والجنة والنار مخلوقتان، لا تفنيان أبدا ولا تبيدان، فإن الله تعالى خلق الجنة والنار قبل الخلق”، وقال الصلابي (2011): اتفق أهل السنة على وجود الجنة والنار الآن. ويؤكد ذلك قوله تعالى عن الجنة في سورة آل عمران أنها: (…أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133))، وعن النار قال تعالى في سورة البقرة: (فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ (24))، كما جاء في سورة النجم: (وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15))، فقد رأى النبي صلى الله عليه وسلم سدرة المنتهى، ورأى عندها جنة المأوى.
وقد ورد من حديث أنس رضي الله عنه في قصة الإسراء، الذي جاء في آخره: ((ثم انطلق بي جبريل حتى أتى سدرة المنتهى، فغشيها ألوان لا أدري ما هي، قال: ثم دخلت الجنة، فإذا هي جنابذ اللؤلؤ، وإذا ترابها المسك)) رواه الشيخان. ومن حديث عبد الله بن عمر رضي الله عنهما، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((إن أحدكم إذا مات عُرِضَ عليه مقعده بالغداة والعشي، إن كان من أهل الجنة فمن أهل الجنة، وإن كان من أهل النار فمن أهل النار، يقال هذا مقعدك يوم القيامة)) رواه الشيخان أيضا.
وقد أفرد البخاري في صحيحه بابا بعنوان: “ما جاء في صفة الجنة وأنها مخلوقة”، وقد تضمن هذا الباب أحاديث كثيرة تدل على أنها مخلوقة، منها قوله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله يُرِيْ الميت عندما يوضع في قبره مقعده من الجنة أو النار))، وحديث إطلاع الرسول صلى الله عليه وسلم على الجنة والنار، وحديث رؤيته صلى الله عليه وسلم لقصر عمر بن الخطاب في الجنة.
وروى الترمذي من حديث أبي الزبير عن جابر، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: ((من قال سبحان الله وبحمده ، غرست له نخلة في الجنة)) وقال:حديث حسن صحيح، فلو لم تكون الجنة موجودة الآن لما كان لهذا الغراس معنى، وكذلك دعاء امرأة فرعون الذي ورد في سورة التحريم: (رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ …. الآية(11)).
وفي قوله تعالى من سورة يس: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26)) فهذا مؤمن أنطاكيا الذي نصح قومه حيا وميتا، فقد مات شهيدا، فدخل الجنة على الفور ولما رأى نعيم الجنة تمنى لو أن قومه يعلمون ما أعده الله للمؤمنين من نعيم. وفي المقابل يؤمر الكافرين بدخول جهنم بعد مماتهم كما جاء في قوله تعالى من سورة النحل: (فَادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)) وقد جاء في مختصر تفسير ابن كثير قوله: وهم يدخلون جهنم من يوم مماتهم بأرواحهم، وينال أجسادهم في قبورهم من حرها وسمومها، فإذا كان يوم القيامة سُلكت أرواحهم في أجسادهم، وخلدت في نار جهنم.
ويقول ابن أبي العز الحنفي شارح العقيدة الطحاوية ردا على قول المعتزلة والقدرية الذين ينكرون ما اتفق عليه أئمة أهل السنة بأن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن، ويحتجون بقوله تعالى من سورة القصص: (…كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ … الآية (88)) يقول: أنهم لم يفهموا النص كما فهمه أئمة الإسلام، فمعنى (كل شيء) أي مما كُتب عليه الفناء والهلاك (هالك)، والجنة والنار خُلِقتا للبقاء لا للفناء، وكذلك العرش فإنه سقف الجنة. وقد روى الإمام مسلم عن أنس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((والذي نفس محمد بيده، لو رأيتم ما رأيت لضحكتم قليلا ولبكيتم كثيرا،قالوا وما رأيت يا رسول الله؟ قال: رأيت الجنة والنار))، فلو لم تكونا مخلوقتان وموجودتان الآن ما رآهما صلى الله عليه وسلم.
الخلاصة:
استنتج الباحث من الاقتران بين خلق السماوات والأرض، وبين اختلاف الليل والنهار في آية التفكر من سورة آل عمران، استنتج أن في ذلك إشارة إلى أن الجنة في السماوات العلى، وأن النار في السماوات السفلى، وذلك بطريقة تشبه تعاقب الليل والنهار. ويتفق ذلك مع الاصطلاح القرآني ومع الروايات والآثار المذكورة في المقال ومنها: “تصير السماوات جنانا”، و”الأرض كلها نار”.
وقد اتفق أئمة أهل السنة على أن الجنة والنار مخلوقتان وموجودتان الآن، فقد رآهما الرسول صلى الله عليه وسلم في رحلة المعراج، ويؤكد ذلك قوله صلى الله عليه وسلم: ((من قال سبحان الله وبحمده غُرِسَت له نخلة في الجنة)).
المراجع:
- مراجع التفسير والحديث الشريف المذكورة في النص.
- شرح العقيدة الطحاوية: لابن أبي العز الحنفي، مؤسسة الرسالة (1990)، 1017 ص.
- الصلابي، ع (2011): سلسلة أركان الإيمان، (5) الإيمان باليوم الآخر (فقه القدوم على الله)، دار المعرفة، بيروت – لبنان، 435 ص.
بقلم: د.سعد كامل
أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر
saadkma2005@yahoo.com