بقلم: د.سعد كامل
ما سبب اتساع الكون؟
سبحان الله العظيم رب العرش المجيد، الذي خلق السماوات السبع خلقا عظيما هائل الاتساع، وباالرغم من ضخامة تلك السماوات (علويا وسفليا) حيث يبلغ نصف قطرها مجتمعة 14 من وحدات المسافات الكونية، إلا أنها تساوي أقل من 1% من الكون الكبير، فلا نملك إلا أن نقول: سبحان الله العظيم العليم الحكيم. وحيث أن البحث الحالي يقترح أن وحدة المسافات الكونية تساوي نصف قطر الكون المدرك، ويبلغ نصف القطر هذا نحوا من 13700 مليون سنة ضوئية (السنة الضوئية = 10 تريليون كم)، وعليه يمكن أن يكون نصف قطر السماوات السبع مجتمعة نحوا من 192 ألف مليون سنة ضوئية (أو ما قد يصل إلى 192 أوكتاليون كيلومتر، أو 192 أمامها 21 صفرا)، ناهيك عن أبعاد العرش المجيد وفق هذه الوحدات التي قد تصل إلى تريليون وأربعمائة مليار سنة ضوئية، والله أعلى وأعلم.
ويعتقد كاتب هذه السطور أن البحث الحالي يقدم تفسيرا مبسطا لاتساع الكون الصغير الذي يضم السماوات السبع علويا وسفليا (الصورة الرئيسية)، ويتضمن هذا التفسير نقطتين أساسيتين:
-الأولى هي ما نراه فلكيا في تباعد مكونات الكون المدرك من نجوم وكواكب ومجرات، وأن هذا التباعد مقصود لضمان استقرار ذلك الكون المدرك، بالتالي يمكن أن يكون التباعد المناظر للسماوات يخدم نفس الهدف،
-الثانية تشير إلى أن اتساع الأرضين فوق السماوات علويا باتجاه عرش الرحمن حيث توجد الجنات العلا، أو سفليا بعيدا عن العرش حيث توجد النار في أسفل سافلين، فيكون هذا الاتساع يهدف إلى جعل الجنات في السماوات العلا تستوعب ما خلقه الله جل شأنه من المكلفين (الإنس والجن) اعتبارا من بدء الخلق وحتى يوم القيامة، حيث أن الجنات تتضمن منزلا لكل فرد من هذا الخلق الذي لا يعلم عدده إلا الله تبارك وتعالى.
-وكذلك تكون النار في الأرضين فوق السماوات سفليا بعيدا عن العرش المجيد، تكون أيضا تتسع لكل الخلق المكلفين منذ بدء الخلق إلى يوم القيامة، وقد ذكرنا في مقال سابق أن الكافرين الذين يدحلون جهنم بأعمالهم تكون منازلهم في الجنات خالية فيرثها عباد الله المؤمنين.
مناقشات حول الجنة وحول النار:
يمكن القول أن هذه السلسلة من مقالات مفهوم الكون الكبير، يمكن القول أنها تقترب من ختام رحلتها مع القراء الكرام، وذلك بتقديم عدد من المقالات حول تطبيق نموذج الكون المقترح على ما ورد من أوصاف للجنة وما ورد من أوصاف للنار، وذلك لأن كاتب هذه السطور يعتقد أن ما جاء في آية التفكر من سورة آل عمران: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآَيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ (190) الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)) أن ذلك يؤكد أن هذه السماوات هائلة الاتساع قد خلقها الله تبارك وتعالى لتكون مستقرا للعباد وفق أعمالهم، فالمؤمنين إلى الجنات العلا والمجرمين إلى أسفل سافلين، لذلك جاء في ختام الآية الثانية قول أولي الألباب وهم ينظرون إلى الجنات العلا: (ربنا ما خلقت هذا باطلا) طامعين أن تكون هي مثواهم، بينما تتجه أنظارهم إلى أسفل سافلين حيث نار الجحيم فيقولون: (فقنا عذاب النار) راجين من الله أن يبعدهم عنها وعن حرها.
وعليه سوف تتناول المقالات الأخيرة من سلسلة مفهوم الكون الكبير تغطية بعض مفاهيم الجنة والنار المرتبطة بالكون، وسيتم اعتبارا من المقال الحالي تغطية أحد الأمور المرتبطة بالنار مثل: اتساعها، وأبوابها أو دركاتها، ثم وصف عذابها وغلظة خزنتها، مع توضيح أهمية الإيمان الذي ينجي العباد منها، حيث لا يقبل من المجرمين والكافرين ملء الأرض ذهبا ليفتدوا من عذابها…. ومن ثم سوف يكون مسك الختام مع الجوانب المرتبطة بجنات النعيم وساكنيها من السابقين المقربين ثم أصحاب اليمين، مع مناقشة موضوعات عن الجنة منها أسماء الجنة، وأبوابها ثم درجاتها، ثم وصف بعض نعيمها.
حول اتساع النار:
يمكن لمن ينظر إلى مخطط الكون المقترح في هذا البحث (الصورة الرئيسية)، يمكنه أن يلاحظ التماثل بين السماوات العلى (الجنة) والسماوات السفلى (النار)، وأيضا يوضح الشكل بمجرد النظر أن المساحات المتاحة للجنات (الأرضين فوق السماوات العلى) تمثل مساحات هائلة حيث أننا نتكلم عن أنصاف أقطار هائلة للأسطح الكروية فوق كل سماء، وكذلك تكون المساحات المتاحة للجحيم مساحات هائلة أيضا، ومما لا شك فيه أن مساحات الجنات ومساحات الجحيم سوف تستوعب كل منها جميع ما يخصص لها من الإنس والجن سواء كانوا من أهل الجنة أو من أهل النار والعياذ بالله، ولعل الكرة الأرضية -التي سوف تتبدل يوم القيامة بأمر الله- لعلها سوف تصبح أرضا من أراضي الجنة، وبذلك يضاف إلى أراضي الجنة أرضا ثامنة، فيكون للجنة ثمانية أبواب، بينما يكون للنار سبعة أبواب مما يشير إلى سعة الرحمة الإلهية بعباده المؤمنين يوم لا ظل إلا ظله سبحانه وتعالى جل شأنه، الملك القدوس الرحيم الكريم.
يتضح من الفقرة السابقة توافقا ملحوظا بين مفهوم ومخطط الكون المقترح وبين التوازن الملحوظ في القرآن الكريم بين الحق والباطل، وبين الأرض (أو اليابسة) والبحار، وبين الخير والشر، وبين الجنة والنار…. وهكذا، فهذا الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه يتميز بالتوازن المبهر حول ذكر هذه المتضادات وغيرها الكثير، وليس في ذلك أية غرابة فهو كلام الحكيم الخبير رب العالمين سبحانه وتعالى جل شأنه… وقد وقف الباحث كثيرا أمام تفسير قوله تعالى من سورة الفرقان: (الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا (59)) حيث جاء في تفسير ابن كثير قوله: “(الذي خلق السماوات والأرض) أي هو خالق كل شيء وربه ومليكه، الذي خلق بقدرته وسلطانه السماوات السبع في ارتفاعها واتساعها، والأرضين السبع في سفولها وكثافتها”… فهو هنا يقصر معنى كلمة السماوات على جهة العلو، ويحدد كلمة الأرضين أنها تشير إلى جهة السفل، كما يشير إلى الاتساع والعلو فيما يخص السماوات، بينما يأتي الضيق أو الكثافة مع السفول فيما يخص الأرضين السبع، فكيف يمكن التوفيق بين الضيق المذكور هنا وبين تساوي الجنة والنار (تقريبا) في الاتساع؟
للإجابة عن هذا الاستفسار نؤكد أن اتساع الجنة واتساع النار تقوم عليه الكثير من الأدلة -كما سيأتي أدناه-، لكن الضيق في النار لا يرتبط باتساع المكان المخصص لها، بل يرتبط بضيق المكان المخصص لكل من نزلاء الجحيم، وبذلك يكون الضيق نوع من أنواع العذاب الذي يحيق بأصحاب الجحيم، فكما سيأتي نرى أن الكافر سيكون حجمه ضخما في النار، لكن المكان عليه أبواب مؤصدة فيكون مكانا ضيقا ذو أبواب مغلقة، ويزيد العذاب لو عرفنا أنها ذات أسوار لها أعمدة ممدودة يصعب اجتيازها كما جاء في قوله تعالى من سورة الكهف: (إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا… الآية (29))، فيفقد حبيس ذلك المكان أي أمل في الفكاك من هذا العذاب الأليم أعاذنا الله منه، وقد جاء في سنن الترمذي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((لِسُرَادِقِ النار أربع جدر، كثف كل جدار مسيرة أربعين سنة))، ويمكن أن نعدد الأدلة على اتساع الجحيم في النقاط التالية:
-خرج الإمام أحمد والترمذي من حديث الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة رضي الله عنه ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يخرج يوم القيامة عنق من النار، لها عينان تبصران، وأذنان تسمعان، ولسان ينطق، تقول: “إني وكلت بثلاثة: بكل جبار عنيد، وبكل من دعا مع الله إلها آخر، وبالمصورين”)) وصححه الترمذي وقال: هذا حديث حسن صحيح غريب.
-كما روى مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا)). أي يؤتى بالنار من المكان الذي خلقها الله فيه، إلى أرض المحشر، تسحبها الملائكة ليراها الناس ترهيبًا لهم، وقد ورد في الحديث السابق عن أبي هريرة أن عنقا من جهنم يبرز لأرض المحشر كما قال تعالى: (وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغَاوِينَ) أي أظهرت وكشف عنها (لِلْغَاوِينَ) الذين تجرأوا على محارم الله وكذبوا رسله فإذا كان هذا الجزء الصغير من جهنم يجره 4.9 مليار ملك، فكم يكون اتساع جميع النار؟
-ومما يدل على اتساع النار ما ورد في مختصر تفسير ابن كثير حول قوله تعالى من سورة المزمل: (فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْمًا يَجْعَلُ الْوِلْدَانَ شِيبًا (17)) “أي من شدة أهواله وذلك حين يقول الله تعالى لآدم: ابعث بعث النار، فيقول: من كم؟ فيقول من كل ألف تسعمائة وتسعة وتسعون إلى النار، وواحد إلى الجنة” رواه البخاري من حديث أبي سعيد الخدري رقم 3170، وجاء فيه بشرى أن المسلمين نصف أهل الجنة.
-أما قعرها وعمقها فالنار قعرها بعيد، روى مسلم في صحيحه من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: كُنَّا مَعَ رَسُولِ الله صلى الله عليه وسلم إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً فَقَالَ: ((تَدْرُونَ مَا هَذَا؟)) قَالَ: قُلْنَا: اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ. قَالَ: ((هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا)).
-ومما يشير إلى اتساع النار ما ورد عن عظم خلقة الكافرين فيها، فيجتمع فيها كثرة العدد وضخامة الأجسام، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ضرس الكافر أو ناب الكافر مثل أحد، وغلظ جلده مسيرة ثلاث)) رواه مسلم رقم 2851، ورغم كثرة العدد وضخامة الأجسام فإن جهنم تطلب المزيد كما جاء في سورة ق: (يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)). كما أن الملائكة تتسارع يوم القيامة في تنفيذ الأوامر الإلهية ومنها ما جاء في سورة الحاقة: (خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُهَا سَبْعُونَ ذِرَاعًا فَاسْلُكُوهُ (32))، حيث يسرع 70 ألف ملك لوضع السلسلة في جسم الكافر أيهم يبدأ في تنفيذ الأمر الإلهي، وهي سلسلة ضخمة طولها سبعون ذراعا نظرا لضخامة جسم الكافر، فيقع الكافر أويغرق في الجحيم لضخامة السلسلة.
يتضح أيها القاريء الكريم مما تقدم أن اتساع النار فوق كل خيال، ويساعدنا فهم أبعاد السماوات السبع والأرضين السبع، وفهم مخطط الكون المقترح (الصورة الرئيسية) على التأكد من ذلك، فكلا من الجنة والنار تشغل مساحات نصف الأسطح العليا للأرضين الواقعة فوق السماوات السبع لأعلى و لأسفل.
الجنة والنار وفق المعنى الفلكي للسماوات السبع:
نحتاج هنا أن نتذكر المعنى الفلكي للسماوات السبع التي تحيط إحاطة تامة بالكون المدرك، وأن نصفها العلوي باتجاه العرش يمثل الجنات التي فوق كل منها أرض من أراضي الجنة بالإضافة إلى أرض الكرة الأرضية التي يمكن اعتبارها الأرض الثامنة للجنة، أما النصف السفلي للسماوات بعيدا عن العرش الذي يمثل الجحيم، فكل سماء منها فوقها –فلكيا- أرض من أراضي النار، حتى لو كانت مقلوبة بالنسبة لاتجاه العلو، وكل من هذه الأراضي تضم صور الجحيم التي سيأتي طرفا منها في المقالات القادمة بإذن الله، وأعلى كل أرض من أراضي الجحيم توجد سماء وهي التي ستذوب من لفح نار جهنم والعياذ بالله كما قال ابن كثير في تفسير قوله تعالى من سورة الرحمن: (فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّمَاءُ فَكَانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهَانِ (37))، وبين كلا الطرفين يوجد سور عظيم يفصل بين الجنة والنار، والله أعلم… فإلى أين نحن ذاهبون؟
جاء فى مسند أبى داوود فى باب خلق الجنة والنار عن أبى هريرة عن النبى صلى الله عليه وسلم قال:
-لما خلق الله الجنة قال لجبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال أى رب وعزتك لا يسمع بها أحد إلا دخلها، ثم حفها بالمكاره ثم قال يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال أى رب وعزتك لقد خشيت ألا يدخلها أحد .
-قال: فلما خلق الله النار قال يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال أى رب وعزتك لا يسمع بها أحد فيدخلها، فحفها بالشهوات ثم قال يا جبريل اذهب فانظر إليها فذهب فنظر إليها ثم جاء فقال أى رب وعزتك لقد خشيت ألا يبقى أحد إلا دخلها.
وعلى ذلك نحتاج إلى أن نتفكر بقوة وعمق حول الجنة التي حفت بالمكاره، وحول النار التي حفت بالشهوات، فهل سوف تسحبنا الشهوات إلى الجحيم؟ أم سوف نفوز بالجنة بالرغم من المكاره التي حفت بها؟ يا رب سلم سلم.
الخلاصة:
ناقش البحث سعة النار مشيرا إلى أن ما يذكره المفسرون عن ضيق النار يقصد به ضيق الأماكن التي يسكنها المعذبون في النار لأنها مغلقة عليهم، ولأن أجسامهم ضخمة جدا، ويؤكد ذلك النصوص الشرعية المذكورة ضمن هذا المقال والتي تفيد اتساع النار، مثل مجيء النار (أو عنق منها) يوم القيامة يجرها 4900 مليون ملك، كما أن نزلاء النار من الخلق تصل نسبتهم إلى 999 من كل ألف ممن خلق الله من الإنس منذ بدء الخلق وإلى يوم القيامة.
المراجع:
- كتب التفسير والحديث المذكورة في النص.
- الأشقر، ع. (1991): اليوم الآخر: (3) الجنة والنار، دار النفائس، الأردن، ط 4، 280 ص.
- الصلابي، ع (2011): سلسلة أركان الإيمان، (5) الإيمان باليوم الآخر (فقه القدوم على الله)، دار المعرفة، بيروت – لبنان، 435 ص.
- موقع الدرر السنية: مكان النار
بقلم: د.سعد كامل
أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر
saadkma2005@yahoo.com