مفهوم الكون الكبير .. (56) جهنم مأوى الكافرين: (جـ) خزنة النار وعذابها
بقلم: د.سعد كامل
خزنة النار:
ذكرنا في المقال السابق طرفا من تفسير قوله تعالى من سورة التحريم: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلَائِكَةٌ غِلَاظٌ شِدَادٌ لَا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ (6)) نقلا عن مختصر تفسير ابن كثير أن أول أهل النار وصولا إلى النار يجدون على الباب:
- 400 ألف من خزنة النار سود وجوههم كالحة أنيابهم،
- لو طار الطير من منكب أحدهم يصل إلى منكبه الآخر بعد شهرين،
- ثم يجدون على الباب التسعة عشر عرض صدر أحدهم سبعون خريفا،
- ثم يهوون من باب إلى باب خمسمائة سنة، ثم يجدون على كل باب منها مثل ما وجدوا على الباب الأول حتى ينتهوا إلى آخرها.
نلاحظ هنا الكثرة الكاثرة من الملائكة على أبواب النار، كما نلاحظ التفاوت في أحجام هؤلاء الملائكة، وهم يتميزون بأجسام هائلة على كل حال سواء منهم من يطير الطير بين منكبيه شهرين، أو من عرض صدره مسيرة سبعون خريفا (من التسعة عشر)، هذا بالإضافة إلى صفاتهم الأخرى فوجوههم سود وأنيابهم كالحة، وليس في قلوبهم رحمة بالكافرين من نزلاء النار أعاذنا الله منها، كما جاء في الآية أنهم (غلاظ شداد لا يعصون الله ما أمرهم)، وقال القرطبي أن التسعة عشر هم الرؤساء والنقباء، أما جملتهم فلا تعد ولا تحصى كما جاء في قوله تعالى في سورة المدثر: (… وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ وَمَا هِيَ إِلَّا ذِكْرَى لِلْبَشَرِ (31)). وقد ذكرنا في مقال سابق ما رواه مسلم في صحيحه من حديث عبد الله بن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((يُؤْتَى بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لَهَا سَبْعُونَ أَلْفَ زِمَامٍ مَعَ كُلِّ زِمَامٍ سَبْعُونَ أَلْفَ مَلَكٍ يَجُرُّونَهَا)). أي يؤتى بجهنم من المكان الذي خلقها الله فيه، إلى أرض المحشر، يسحبها نحوا من 4.9 مليار من الملائكة ليراها الناس ترهيبًا لهم.
وكبير خزنة النار هو مالك عليه السلام، كما جاء في قوله تعالى من سورة الزخرف: (وَنَادَوْا يَا مَالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنَا رَبُّكَ قَالَ إِنَّكُمْ مَاكِثُونَ (77))، لكن الله تعالى كتب على أهل النار أنهم لا يقضى عليهم فيموتوا، فيرد عليهم مالك عليه السلام: (إنكم ماكثون). أما عموم خزنة النار من الملائكة فلهم اسم عام وهو: (الزبانية)، كما جاء في قوله تعالى من سورة العلق: (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18))، والزبانية هم الذين يتولون تعذيب الكفار والعصاة في النار (انظر الأشقر، 1991).
ولعل الناظر إلى صفات وأعداد خزنة النار يمكنه أن يستشعر باطمئنان كبير أن ساحات الحساب والنعيم أو العذاب التي سوف تستقبل جميع الخلق في يوم الحساب، يستشعر أن تلك الساحات والقائمين عليها من الملائكة المكرمين قد تم إعدادهم إعدادا كاملا لاستقبال كل الحشود الحاشدة من المكلفين وغيرهم، فمما لا شك فيه أن أبواب السماوات العليا والسفلى واسعة بشكل يسمح بمرور كبار الملائكة المكرمين، ويمكن القول إذا كانت جهنم هي الدرك الأول من النار أنها قد تكون الأقرب إلى ساحات أرض المحشر فيسحب الملائكة عنق منها ليراها المذنبون توطئة لدخولها وترهيبا لهم، فلا نملك إلا أن نقول (ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار) اللهم آمين.
حول وصف عذاب النار:
جعل الله تبارك وتعالى نار جهنم عذابا عاما للكافرين، فهؤلاء قد خالفوا العهد الأزلي الذي أخذه الله على عباده في عالم الذر، فقد كفروا بالخالق عز وجل، فلا يستحقون إلا عذاب الجحيم، وهي أيضا عذابا عاما للعصاة من الموحدين الذين تجاوزوا الحد ولم يقفوا عند حدود ما أمر الله به من الشرائع، ومن المعروف أن الله تبارك وتعالى جعل من أنواع عذاب الجحيم ما يرتبط بالحواس، قالذي يمشي بالكذب والغيبة والنميمة يُعذب في اللسان، والزاني يُعذب في الفرج، والذي يقتل الناس ظلما يقع عليه العذاب في الأطراف التي كان يسعى بها في هذه الكبائر.
هذا وقد تناولنا ضمن الحديث عن سعة النار كيف أن النار ضيقة على الرغم من اتساعها، وذلك الضيق يأتي بسبب أن أهل النار يُلقى بهم في مكان ضيق مغلق عليهم، كما أنهم عند دخولهم النار يساقون بشدة وإهانة، كما يقيدون بالأغلال ويسلكون في السلاسل الضخمة التي تتناسب مع ضخامة أحجامهم، ويزداد عذابهم أكثر عندما يطلبون التخفيف فلا يستجاب لهم، وعندما يريدون فداء أنفسهم من العذاب فلا يقبل منهم ولا ملء الأرض ذهبا.
ويعتقد الباحث أن العديد من مظاهر العذاب في النار تعتبر ذات أبعاد كونية مثل:
- مكان النار في السماوات السفلى بعيدا عن العرش المجيد.
- الإهانة عند سوقهم إلى جهنم زمرا.
- ضيق المكان الذي يلقى فيه النزلاء رغم اتساع النار.
- غلظة الملائكة المخصصون بتنفيذ العذاب، وشدتهم في تنفيذ الأوامر الإلهية.
- السلاسل الضخمة للقيود التي تجعلهم يغوصون في الهاوية بأجسامهم الضخمة.
- الخلود في الجحيم وعدم التخفيف عنهم، واستحالة قبول الفداء ولو بملء الأرض ذهبا.
وقد فصل الصلابي (2011) والأشقر (1991) وغيرهما في وصف عذاب جهنم، فمن يريد التوسع يمكنه الرجوع إلى هذه الكتب، وقد ذكرنا أعلاه نصوصا شرعية في وصف بعض هذه المظاهر، ويبقى هنا النظر في مقارنة بين نعيم المؤمنين في الجنة، وبين عذاب الكافرين في النار (جدول: الصورة الرئيسية)، وسوف يقدم الباحث في المقال القادم مناقشة موجزة حول استحالة الفداء من عذاب جهنم ولو بملء الأرض ذهبا.
المراجع:
- كتب التفسير والحديث المذكورة في النص.
- الأشقر، ع. (1991): اليوم الآخر: (3) الجنة والنار، دار النفائس، الأردن، ط 4، 280 ص.
- الصلابي، ع (2011): سلسلة أركان الإيمان، (5) الإيمان باليوم الآخر (فقه القدوم على الله)، دار المعرفة، بيروت – لبنان، 435 ص.
بقلم: د.سعد كامل
أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر
saadkma2005@yahoo.com