أراء وقراءات

مفهوم الكون الكبير (6)..كنوز تراثية حول مفهوم الكون

بقلم / د.سعد كامل 

يقدم نموذج السماوات السبع والأرضين السبع (السمان، 2017) -الذي يمثل نقطة الانطلاق الأساسية للبحث الحالي حول مفهوم الكون الكبير- يقدم شرحا بسيطا لمصطلح “البناء السماوي الكبير” المذكور عند عمري (2008) -وإن لم يتفق معه اتفاقا كاملا-، وكما ذكرنا في المقالات السابقة من هذه السلسلة فإن العلم البشري يقف عند حدود الكون المدرك الذي يمثل نصف السماء الأولى (السماء الدنيا) تقريبا، أما ما بعد ذلك من البناء السماوي فهو من علوم الغيب؛ والبناء السماوي يضم السماوات السبع وما بينهن من خلاء، ويضم الأرضين السبع اعتبارا من الأرض الأولى فوق السماء الأولى حتى الأرض السابعة فوق السماء السابعة، وكل ذلك في جوف الكرسي وبين يدي العرش. ويضم الكون الكرة الأرضية التي نعيش عليها كجزء من الكون المدرك (الذي يدخل في مجال الدراسات الفلكية ضمن علم الكونيات Cosmology).

أما التفاصيل التي تصف السماوات السبع في العلوم الشرعية من حيث طبيعتها، وما بينها من خلاء، ومادتها، وما سيطرأ عليها من تغييرات يوم القيامة… وغير ذلك من تفاصيل يرى المؤلف أنها تمثل زادا علميا للمهتمين بالكونيات، ولا شك أن أخذ هذه التفاصيل في الاعتبار يمكن أن يدفع علماء الطبيعة إلى استنباط الكثير من المفاهيم حول القوى الفاعلة في الكون… فإلى بعض التفاصيل حول السماوات السبع  الواردة ضمن الكنوز التراثية (انظر أيضا الجدول المنشور أعلى المقال):

رحلة الإسراء والمعراج:

تعتبر رحلة الإسراء والمعراج التي صعد فيها رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم إلى السماوات العلى، تعتبر التجربة البشرية الفريدة والوحيدة لارتياد ورؤية الكون بمعناه الواسع، ويكفيه رفعة وفخرا -صلى الله عليه وسلم- أن الله سبحانه وتعالى قد اصطفاه لهذه الرحلة وتلك الرؤية المباركة التي تقف عندها جميع القدرات والوسائل البشرية عاجزة: فالحلم البشري في الانتقال الفوري لمسافات شاسعة قد تحقق بأمر الله في تلك الرحلة النورانية المباركة، وتخطي حاجز سرعة الضوء بمراحل فوق أي خيال قد حدث في هذه الرحلة العظيمة، كما أن دقة ملاحظة الظواهر الكونية على المقياس الواسع ((دون زيغ أو خلل)) ووصف تلك الظواهر بكلمات بسيطة توضح طبيعة هذا الكون العظيم يعتبر من أهم نتائج تلك الرحلة الكريمة.

تفاصيل رحلة المعراج التي وردت ضمن روايات حديث الإسراء المتواترة، التي يذكر الإمام ابن كثير (في تفسيره للآية الأولى من سورة الإسراء) أنها وردت عن أكثر من عشرين من الصحابة الكرام رضوان الله عليهم، ويؤكد أن حديث الإسراء قد أجمع عليه المسلمون وأعرض عنه الزنادقة والملحدون… وقد ذكر ابن كثير في عرض موجز لرحلة المعراج أن الرسول صلى الله عليه وسلم استقبله في كل سماء مقربوها، كما سلم -عليه الصلاة والسلام- على الأنبياء الذين في السماوات بحسب منازلهم ودرجاتهم، حتى مر بموسى الكليم في السماء السادسة، وإبراهيم الخليل في السابعة، وتذكر الروايات أن نبي الله كان في صحبة جبريل عليه السلام يصعدا بين كل سماء وسماء، ثم يستأذن جبريل أهل كل سماء فيؤذن له ومعه النبي الكريم.

كنوز تراثية أخرى حول مفهوم الكون:

جاء ضمن المقال الرابع من هذه السلسلة تحت عنوان: “وجهات نظر حول بنية الكون” وصفا موجزا لتطور فهم بنية الكون عند البشر عبر التاريخ اعتبارا من المجالات السماوية وفي مركزها الكرة الأرضية في الفكر الإغريقي، وقد استمر العلماء المسلمين في عصر النهضة الإسلامية في استخدام نماذج المجالات السماوية مع تحفظ بعضهم على تلك النماذج، ومع اختراع التليسكوب وظهور فكرة كوبرينيكوس حول مركزية الشمس للمجموعة الشمسية، وبعدها بدأ تطور مفهوم الكون المدرك بأبعاده الواسعة وما فيه من مجرات تصل إلى مائتي ألف مليون مجرة.

وعليه لا يمكن القول أن نماذج المجالات السماوية تعتبر من التراث الإسلامي لوصف بنية السماوات السبع، فالحضارة الإسلامية تناولت تلك النماذج من الحضارات الإغريقية، ثم قامت بتسليمها دون إضافة أو تعديل إلى الحضارة الأوروبية المعاصرة، من هنا فإن الذي يقرأ ما ورد من نصوص شرعية حول وصف مفهوم الكون وبنيته ومكوناته، يجب عليه أن يقوم بالتفريق بين أصول تلك النصوص من القرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة، وبين ما أضيف على تلك النصوص من تفسيرات يمكن تقسيمها إلى نوعين من التفسيرات: النوع الأول هو فهم المفسرين لتلك النصوص بناء على ما يستنتج منها وفق قواعد اللغة العربية ووفق التفسير بما تنقله الروايات عن الرسول الكريم وعن علماء السلف الصالح رضوان الله عليهم؛ أما النوع الثاني من تلك التفسيرات فهي التفسيرات المبنية على المعلومات الحضارية حول بنية الكون التي كانت سائدة في عصور تلك التفسيرات، وعليه يتضح أن النوع الأول من تفسيرات النصوص الشرعية المبنية على النقل يعتبر من أهم مراجع فهم مفهوم الكون الصحيح مع إضافة الفهم المعاصر للكون المدرك وأبعاده الهائلة، وهذا ما يعتبره المؤلف الحالي من الكنوز التراثية التي تتضمن رحلة الإسراء والمعراج ومنها أيضا ما يلي:

-جاء في تفسير ابن كثير حول قوله تعالى في سورة المؤمنون ((قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ( 86)): “قال الأعمش عن كعب الأحبار: إن السموات والأرض في العرش، كالقنديل المعلق بين السماء والأرض، وقال بعض السلف:إن مسافة ما بين قطري العرش من جانب إلى جانب مسيرة خمسين ألف سنة، وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة”. فهذه أخبار عن تشبيه السماوات والأرض بالقنديل نسبة إلى العرش، وعن بعض الأبعاد بصورة رمزية تستدعي التحقيق بداية حول صحة هذه الأخبار، ومن ثم توظيف ما يمكن منها في تشكيل التخيل الصحيح عن الكون العظيم… لذلك فالبحث الحالي  يمثل البداية الصغيرة لذلك العمل الكبير.

-أما الحاوي في التفسير فقد ذكر حول قوله تعالى في سورة الصافات ((إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ (6)): “(إنا زينا السماء الدنيا) أي القربى منكم ومن الأرض، وأما بالنسبة إلى العرش فهي البعدى، والدنيا تأنيث الأدنى بمعنى الأقرب …..، وكون الكواكب زينة للسماء الدنيا لا يقتضي كونها مركوزة في السماء الدنيا، ولا ينافي كون بعضها مركوزة فيما فوقها من السماوات “نظرا لشفافية تلك السماوات”.، فهنا بعض الوصف فيما يخص السماء الدنيا التي هي جزء من السماء الأولى (تبعا لمعلمي، 2011؛ أو هي السماء الأولى عند بعض المفسرين وعلماء الفلك)، لكن كاتب هذه السطور يميل إلى اعتبار أن السماء الدنيا تساوي نحوا من نصف السماء الأولى، وأنها تساوي ما يطلق عليه علماء الفلك مصطلح “الكون المدرك” وذلك لما ورد في الأحاديث أن هناك مسيرة كذا وكذا بين الأرض وبين السماء الأولى، وبين كل سمائين كذلك، وأن كثف كل سماء مسيرة كذا وكذا، لكن ذلك يحتاج إلى المزيد من التحقيق والتحقق، أما السماء الأولى التي تأتي فوق السماء الدنيا، فهي تمثل بداية البناء السماوي الكبير (تبعا لرؤية عمري، (2004.

-جاء في تفسير القرطبي حول قوله تعالى من سورة الملك ((الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)) قول الجمهور: “أن الأرض مستدير كالكرة وأن السماء الدنيا محيطة بها من كل جانب إحاطة البيضة بالمح” … إلى قوله: “وهكذا إلى أن يكون العرش محيط بالكل، والكرسي الذي هو أقربها إليه بالنسبة إليه كحلقة في فلاة، فما ظنك بما تحته وكل سماء في التي فوقها بهذه النسبة”.

-كما جاء في تفسير ابن كثير عن قوله تعالى من سورة الملك ((الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِنْ تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِنْ فُطُورٍ (3)): “(الذي خلق سبع سماوات طباقا) أي طبقة بعد طبقة، وهل هن متواصلات بمعنى أنهن علويات بعضهم على بعض، أو متفاصلات بينهن خلاء؟ فيه قولان، أصحهما الثاني، كما دل على ذلك حديث الإسراء وغيره”. فالسماوات السبع بينهن خلاء. وجاء في أيسر التفاسير حول نفس الآية أيضا: “وقوله (الذي خلق سبع سماوات طباقا) هذا ثناء بعظيم القدرة وسعة العلم والحكمة، خلق سبع سماوات طباقا سماء فوق سماء مطابقة لها ولكن من غير مماسة إذ ما بين كل سماء وأخرى هواء وفراغ مسيرة خمسمائة عام فالمطابقة المعادلة والمساواة في الجرم؛ لا بوضع سماء على الأخرى كغطاء القدر”.

-كما ورد في تفسير ابن كثير عن قوله تعالى في سورة الرعد: ((اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَاوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ….((2) قول إياس بن معاوية: السماء على الأرض مثل القبة يعني بلا عمد، والسماوات تتسع كلما علت”. ويؤكد ذلك ابن كثير في البداية والنهاية حول معنى قوله تعالى في سورة الذاريات ((وَالسَّمَاءَ بَنَيْنَاهَا بِأَيْدٍ وَإِنَّا لَمُوسِعُونَ (47)): “وذلك أن كل ما علا اتسع، فكل سماء أعلى من التي تحتها فهي أوسع منها، ولذلك كان الكرسي أعلى من السماوات وهو أوسع منهن كلهن، والعرش أعظم من ذلك كله”. فالسماوات السبع تتسع لأعلى مع ما بينها من فضاءات تتناسب مع هذا الخلق العظيم.

-عن ابن عباس رضي اللَّه تعالى عنهما أن رسول اللَّه صَلَّى اللَّه عليْهِ وسَلَّم قال: “إنّ ملكا من حملة العرش يقال له: إسرافيل زاوية من زوايا العرش على كاهله قد مرقت قدماه في الأرض السابعة السفلى، ومرق رأسه من السماء السابعة العليا ” حديث صحيح رواه أبو داوود في سننه، يحدد هذا الحديث أن السماوات السبع تنقسم إلى قسم علوي وقسم سفلي، وهذا الملك الكريم الذي على كاهله زاوية من زوايا العرش قد مرقت قدماه في الأرض السابعة السفلى، ومرق رأسه من السماء السابعة العليا، مما يشير إلى وجود سماوات عليا وأرضين عليا، وسماوات سفلى وأرضين سفلى.

في ضوء ما تقدم يتضح أن القرآن الكريم والأحاديث النبوية المشرفة تقدم مفهوما شاملا للكون يعجز البشر عن تقديم مفهوما متكاملا مثله، وذلك لأن القرآن والسنة وحيٌ من الخالق العظيم سبحانه وتعالى، وتتميز التفاسير التي بين أيدينا لآيات القرآن الكريم وشروح الآحاديث النبوية بخصائص قل أن تتوفر لغيرها من المؤلفات البشرية من التوثيق والمراجعة الشديدين، فلا تكاد تجد حديثا من الأحاديث أو قولا من التفاسير إلا وقد تمت مراجعته وتحقيقه من أكثر من عالِمٍ خشية أن ينسب إلى الرسول الكريم أو إلى الشرع الحكيم ما ليس له دليل صحيح من الوحي المبين، وعليه فإن البحث الحالي يعرض مفهوما شاملا للكون على علماء الشريعة وعلماء الطبيعة للفحص والمراجعة خشية الوقوع في أدنى درجة من درجات الخطأ الغير مقصود.

من ذلك يتضح أن المفهوم الإسلامي للكون أكثر شمولا وتكاملا من مفهوم الكون في العلوم المادية وذلك لاقتصار الأخير على الكون المدرك بما فيه من مليارات المجرات، فالكون المدرك لا يمثل أكثر من نصف السماء الأولى حسب العلوم الشرعية. لكن من المهم هنا التأكيد على أن فهم الكون المدرك الذي تذكره العلوم المادية يعتبر من الأهمية بمكان من حيث الوصول إلى الفهم المناسب للكون بمفهومه الواسع الذي ورد في النصوص الشرعية، كما يعتقد كاتب هذه السطور أن فهم الكون المدرك بأبعاده الهائلة (نصف قطر الكون المدرك أكبر من 10 آلاف مليون سنة ضوئية) أن ذلك الفهم يزيد من فهمنا بضخامة الكون الكبير… وذلك يؤكد على ضرورة التعاون بين طرفي العلم في عصرنا الحاضر(العلوم الشرعية والعلوم المادية). وقد أوضح الشيخ الشعراوي –رحمه الله- بأسلوبه المتفرد قضية المزج بين معطيات العلم المادي وبين النصوص الشرعية مع الحفاظ على خصوصية النص الشرعي، حيث أكد على أننا لا نستدل على صحة القرآن بالعلم، بل القرآن هو المهيمن وهو الحق، وما العلم إلا كاشف لقدرة الله في الكون.

المراجع:

-مراجع التفسير والحديث الشريف المذكورة في النص.

-السمان، عبد الرحمن (2017) حول بناء السماوات والأرض، رؤية علمية إيمانية. المؤتمر العلمي الدولي الخامس بكلية اللغة العربية – جامعة الأزهر بالزقازيق، (آفاق الإعجاز في القرآن الكريم).

-عمري، حسين (2004): خلق الكون بين الآيات القرآنيّة والحقائق العلميّة، مؤتة للبحوث والدّراسات (سلسلة العلوم الإنسانية والاجتماعيّة)، المجلد 19، العدد 4 ، ص 11 –41 .

-معلمي، خليل  (2011) وهم نظرية الانفجار العظيم ووجود الأراضي السبع، (موقع أهل القرآن).

 

بقلم: د.سعد كامل 

أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر

saadkma2005@yahoo.com

مقالات ذات صلة

تعليق واحد

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.