أراء وقراءاتالبحث العلمى

مفهوم الكون الكبير .. (60) الجنة دار النعيم: نظرات كونية إلى الجنة

بقلم: د.سعد كامل 

مسك الختام في آخر مقالات السلسلة:

جاء في مختصر تفسير ابن كثير حول قوله تعالى من سورة التوبة: (وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72))، روى ابن ماجة عن أسامة بن زيد رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((ألا هل من مشمر إلى الجنة؟ فإن الجنة لا حظر لها، هي ورب الكعبة نور يتلألأ، وريحانة تهتز، وقصر مشيد، ونهر مطرد، وثمرة نضيجة، وزوجة حسناء جميلة، وحلل كثيرة، ومقام في أبد في دار سليمة، وفاكهة وخضرة، وحبرة ونعمة، في محلة عالية بهية))، قالوا: نعم يا رسول الله نحن المشمرون لها، قال: ((قولوا: إن شاء الله))، فقال القوم: إن شاء الله..

فهذا الوصف الدقيق للجنة وما فيها من أنواع النعيم يجعل من يسمع به يشمر ساعد الجد حرصا على دخول ذلك المكان البديع، وهذا الوصف الموجز يعدد أنواع النعيم في الجنة: ارتفاعها وقصورها وأنهارها وأشجارها وثمارها، وفيما يلي نناقش بإيجاز بعض هذه الصفات مع التركيز على ما يرتبط منها بمفهوم الكون:

من أوصاف الجنة المرتبطة بالكون:

  • خيام الجنة:

روى البخاري عن أبو موسى الأشعري وصفا لخيام الجنة، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((الخيمة درة مجوفة، طولها في السماء ثلاثون ميلا، في كل زاوية منها للمؤمن أهل لا يراهم الآخرون، وفي رواية: ستون ميلا))، فانظر أيها القارئ الكريم إلى هذه اللؤلؤة المجوفة التي يصل قطرها إلى ستون ميلا، وهي تعتبر خيمة للمؤمن في الجنة بما فيها من حور عين، وهذا يشير إلى مدى اتساع جنة الخلد، فكم من خيمة عظيمة مثل هذه في جنات النعيم؟

  • أشجار الجنة:

تؤكد أوصاف أشجار الجنة المذكورة في القرآن والسنة أيضا على اتساع جنة الخلد، وعلى جمال وروعة تلك الأشجار ومنها ما يلي:

o  روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة شجرة يسير الراكب في ظلها مائة عام لا يقطعها، فاقرؤا إن شئتم (وظل ممدود) الآية 30 من سورة الواقعة)).

سدرة المنتهى

o  أما سدرة المنتهى في السماء السابعة فقد ورد ذكرها في سورة النجم: (وَلَقَدْ رَآَهُ نَزْلَةً أُخْرَى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى (14) عِنْدَهَا جَنَّةُ الْمَأْوَى (15) إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ مَا يَغْشَى (16) مَا زَاغَ الْبَصَرُ وَمَا طَغَى (17) لَقَدْ رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى (18))، فقد رأى الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أمين الوحي جبريل عليه السلام على هيئته الملائكية مرة على الأرض بعد البعثة، والمرة الثانية في ليلة الإسراء عند سدرة المنتهى، ذكر ذلك مختصر تفسير ابن كثير، ثم أضاف: روى الإمام أحمد عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: لما أسري برسول الله صلى الله عليه وسلم انتهى به إلى سدرة المنتهى، وهي في السماء السابعة، إليها ينتهي ما يعرج به من الأرض فيقبض منها، وإليها ينتهي ما يهبط من فوقها فيقبض منها، وقوله: (إذ يغشى السدرة ما يغشى) قال: فراش من ذهب، وعن مجاهد قال: كان أغصان السدرة لؤلؤا وياقوتا وزبرجدا. وقال ابن زيد: قيل يا رسول الله أي شيء رأيت يغشى تلك السدرة؟ قال: رأيت يغشاها فراش من ذهب، ورأيت على كل ورقة ملكا قائما يسبح الله عز وجل، قال الشاعر:

رأى جنة المأوى فما فوقها  …  ولئن رأى غيره ما رآه لتاها

شجرة طوبى     

o ذكر الصلابي (2011) أن من أشجار الجنة شجرة طوبى، وهي شجرة عظيمة تصنع منها ثياب أهل الجنة، وقد جاء في سلسلة الأحاديث الصحيحة للألباني ما رواه أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن رجلا قال له: يا رسول الله، طوبى لمن رآك وآمن بك، قال: ((طوبى لمن رآني وآمن بي، ثم طوبى، ثم طوبى، ثم طوبى لمن آمن بي ولم يراني))، وقال له رجل: وما طوبى؟ قال: ((شجرة في الجنة، مسيرة مائة عام، ثياب أهل الجنة تخرج من أكمامها)).

o  ذكر مختصر تفسير ابن كثير حول قوله تعالى من سورة الرحمن: (وَلِمَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ جَنَّتَانِ (46) فَبِأَيِّ آَلَاءِ رَبِّكُمَا تُكَذِّبَانِ (47) ذَوَاتَا أَفْنَانٍ (48)) أن الله أعد جنتين من ذهب للمقربين، وجنتين من فضة لأصحاب اليمين، وقال عطاء عن قوله تعالى: (ذواتا أفنان) كل غصن يجمع فنونا من الفاكهة، وعن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وذكر سدرة المنتهى فقال: ((يسير في ظل الفنن منها الراكب مأئة سنة، أو قال يستظل في ظل الفنن منها مائة راكب، فيها فراش الذهب كأن ثمرها القلال)).

  • دواب الجنة وطيورها:

يقول الصلابي (2011) أن الجنة فيها دواب وطيور كثيرة، يركبها أهل الجنة، ويأكلون منها، ويتمتعون بالنظر إليها. ولهذه الدواب دورا في الحشر والانتقال بين مواقف القيامة للمؤمنين كما جاء في سورة مريم: (يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمَنِ وَفْدًا (85) وَنَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلَى جَهَنَّمَ وِرْدًا (86))، فانظر أبها القارئ الكريم إلى الفارق في التكريم والحفاوة بالمؤمنين، ونسبتهم إلى الرحمن سبحانه وتعالى، فهم وفد الرحمن، بينما المجرمين فيساقون إلى جهنم مثل البهائم، وقد ذكر ابن كثير في تفسيره ما قاله علي بن أبي طالب  رضي الله عنه: “لا والله ما على أرجلهم يحشرون، ولا يحشر الوفد على أرجلهم، بل بنوق لم ير الخلائق مثلها، عليها رحائل من ذهب، فيركبون عليها حتى يضربوا أبواب الجنة” فيبدو أن تلك النوق تحمل المؤمنين في انتقالهم بين درجات الجنة في ذلك اليوم العظيم.

الجنة لا شمس فيها ولا قمر:

قال تعالى في سورة الإنسان: (مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا (13))، يعلق الصلابي (2011) على ذلك بقوله: الجنة ليس فيها شمس ولا قمر، ولا ليل ولا نهار، لكن البكرة والعشية تعرفان بنور يظهر من قبل العرش. وقال القرطبي: ليس في الجنة ليل ولا نهار، إنما هم في نور دائم، وإنما يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب وإغلاق الأبواب، كما جاء عند أبو الفرج ابن الجوزي… ويبدو من ذلك أن السماوات العلى لا تحتاج إلى شمس ولا قمر، فالله نور السماوات والأرض سبحانه وتعالى، ففي الجنة مناخا جميلا دائم اللطف ليس فيها حر الشمس ولا برد الشتاء، ونور من الله دائم، في قصور جميلة ونعيم مقيم.

أدنى أهل الجنة وأعلى أهل الجنة منزلة:

لا شك أن أعلى المنازل في الجنة محجوزة للأنبياء ثم الصديقين ثم الشهداء ثم الصالحين، كما جاء في قوله تعالى من سورة النساء: (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا (69))، أي معهم في الجنة وإن لم يكونوا معهم في الدرجة (الصلابي، 2011).

o روى مسلم عن المغيرة بن شعبة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((سأل موسى ربه: مأ ادنى أهل الجنة منزلة؟ قال: هو رجل يجيء بعدما أُدخل أهل الجنة الجنة، فيقال له: ادخل، فيقول: أي رب كيف أدخل وقد نزل الناس منازلهم وأخذوا أخذاتهم؟ فيقال له: أترضى أن يكون لك مثل مُلك مَلك من ملوك الدنيا؟ فيقول: رضيت يارب، فيقول: لك مثل ذلك ومثله ومثله ومثله ومثله، فقال في الخامسة: رضيت ربي، فيقول: هذا لك وعشرة أمثاله، ولك ما اشتهت نفسك ولذة عينيك، فيقول: رضيت ربي)).

o بقية الحديث: ((قال (موسى): ربي، فأعلاهم منزلة؟ قال: أولائك الذين أردت، غرست كرامتهم بيدي، وختمت عليها فلم ترى عين، ولم تسمع أذن، ولم يخطر على قلب بشر، قال: ومصداقه في كتاب الله عز وجل قوله في سورة السجدة: (فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ (17)) رواه مسلم في كتاب الإيمان، رقم 18.

اتساع الجنة وخصوصية نعيم المقربين:

انظر أيها القارئ الكريم إلى سعة الفضل الإلهي على عباده المؤمنين، كم يكون النعيم الذي أعده الله سبحانه وتعالى لأدنى أهل الجنة منزلة؟ لاحظ أنه يفوق خمسين ضعفا فوق مُلك أحد ملوك الدنيا… وإذا كان ذلك النعيم لأحد الصالحين الذي يعتبر من أدناهم منزلة، فما هو اتساع تلك الجنة التي تستوعب أعدادا هائلة من مثل ذلك العبد المؤمن… ثم انظر أخي الكريم إلى آفاق النعيم التي تفوق كل خيال لأعلى أهل الجنة منزلة، فهم الذين رضي الله عنهم فجهز لهم النعيم بيديه سبحانه، مما لم تراه الأعين، ولم تسمع به الأذان، ولم يخطر على قلب بشر… فاللهم أوعدنا واجعل الجنة هي دارنا يا كريم.

الخلاصة:

تناول المقال طرفا من أوصاف نعيم أدنى أهل الأرض منزلة التي تفوق ملك أحد ملوك الدنيا بخمسين مرة، أما أعلى أهلى الجنة من السابقين المقربين فقد أعد الله لهم ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ويضاف إلى ذلك الجمال البديع ما تتصف به جنة الخلد من اتساع هائل نراه في اتساع الغرف والخيام المخصصة للفرد الواحد في الجنة، ونراه أيضا في ضخامة الأشجار التي يسير الراكب في ظلها مائة عام ويصنع من أوراقها ثياب أهل الجنة، كما أن الجنة بها دواب تساعد ساكنيها على قطع المسافات الهائلة فيها، كما يعيش أهل الجنة في نور دائم من نور الله عز وجل حيث لا يوجد شمس ولا قمر، ولا يعرفون الوقت إلا من إرخاء الحجب… فاللهم اجعل الجنة هي دارنا يا كريم.

المراجع:

  • كتب التفسير والحديث المذكورة في النص.
  • الصلابي، ع (2011): سلسلة أركان الإيمان، (5) الإيمان باليوم الآخر (فقه القدوم على الله)، دار المعرفة، بيروت – لبنان، 435 ص.

بقلم: د.سعد كامل

أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر

saadkma2005@yahoo.com

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.