مفهوم الكون الكبير(12) ..خواطر من التفكر حول العرش العظيم
بقلم: الدكتور سعد كامل
نحمد الله تبارك وتعالى أن جعل التفكر فيما خلقه عز وجل مباحا للمؤمنين، فقد ورد في الحديث قوله صلى الله عليه وسلم: ((تفكروا في خلق الله ولا تفكروا في ذات الله))، ولعل هذا التفكر في العرش المجيد يأخذنا إلى اليقين في عظمة ذلك المخلوق الكبير، ومن ثم نتيقين من عظمة الخالق عز وجل… ومن الأسس التي تضبط ذلك التفكر فيما يخص العالم العلوي أنه من الغيب الذي لا يعلمه البشر إلا من خلال الوحي، وبالتالي ليس لنا أن نسرح بخيالنا حول مفهوم ذلك العالم العلوي دون خبر عن الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم سواء من الكتاب أو من السنة، ولنا في ذلك أن نستفيد من النصوص الواردة عن السلف الصالح رضوان الله عليهم في شروحهم لنصوص الكتاب والسنة، سيما أنهم -عليهم رضوان الله- كانوا قريبين من النبع النبوي الصافي، كما أنهم في ذلك لم يتعرضوا للتشويش الإلحادي المعاصر بما فيه من سلبيات ونكران للحق المبين.
ذكر العرش العظيم في القرآن الكريم
ورد ذكر العرش العظيم في القرآن الكريم عدة مرات منها ما جاء في سورة البروج: (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15))، وقد ذكر مختصر ابن كثير في تفسير هذه الآية قوله: “(ذو العرش) أي صاحب العرش العظيم العالي على جميع الخلائق، و (المجيد) فيه قراءتان: الرفع على أنه صفة للرب عز وجل، والجر على أنه صفة للعرش، وكلاهما صحيح”.
كما ورد ذكر العرش في آيات خلق السماوات والأرض في ستة أيام، مثل قوله تعالى في سورة الأعراف: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلَا لَهُ الْخَلْقُ وَالْأَمْرُ تَبَارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ (54))، جاء في مختصر ابن كثير: “يخبر تعالى أنه خالق العالم، سماواته وأرضه وما بين ذلك في ستة أيام، كما أخبر بذلك في غير ما آية من القرآن، واختلفوا في مدة هذه الأيام، هل كل يوم منها كهذه الأيام كما هو متبادر إلى الأذهان؟ أو كل يوم كألف سنة كما نص على ذلك مجاهد والإمام أحمد بن حنبل؟ فأما يوم السبت فلم يقع فيه خلق لأنه اليوم السابع، ومنه سمي السبت وهو القطع”. ((ومن الجدير بالذكر هنا أن هذه السلسلة ستتناول مفهوم أيام الخلق بالمناقشة لاحقا، بإذن الله)). ثم يستكمل ابن كثير تفسير آية الأعراف 54 بقوله: “وأما قوله تعالى (ثم استوى على العرش) فللناس في هذا المقام مقالات كثيرة جدا، ليس هذا موضع بسطها، وإنما نسلك في هذا المقام مذهب السلف الصالح وهو إمرارها كما جاءت، من غير تكييف ولا تشبيه ولا تعطيل”. فهنا يشير التفسير إلى معنى الاستواء وفق ما اتفق عليه أهل السنة والجماعة.
وجاء في سورة يونس قوله تعالى: (إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مَا مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ (3))، يقول مختصر تفسير ابن كثير: “(ثم استوى على العرش) والعرش أعظم المخلوقات وسقفها، وهو ياقوتة حمراء”.
وفي سورة هود قال تعالى: (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا …. الآية (7))، يقول الإمام القشيري (رحمه الله) إن العرش من جملة الكون، كما يقول مختصر تفسير ابن كثير: “يخبر تعالى عن قدرته على كل شيء، وأنه خلق السماوات والأرض في ستة أيام، وأن عرشه كان على الماء قبل ذلك، كما روى الإمام أحمد: عن عمران بن حصين قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم ((اقبلوا البشرى يا بني تميم))، قالوا: قد بشرتنا فأعطنا، قال: ((اقبلوا البشرى يا أهل اليمن))، قالوا: قد قبلنا، فأخْبَرَنَا عن أول هذا الأمر كيف كان؟ قال: ((كان الله قبل كل شيء، وكان عرشه على الماء، وكتب في اللوح المحفوظ ذكر كل شيء))، قال: فأتاني آت فقال: يا عمران انحلت ناقتك من عقالها، قال فخرجت في أثرها، فلا أدري ما كان بعدي، رواه البخاري ومسلم أيضا بألفاظ أخرى. وفي صحيح مسلم عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن الله قدر مقادير الخلائق قبل أن يخلق السماوات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)). وقال ابن عباس: إنما سمي العرش عرشا لارتفاعه، وعن سعيد بن جبير: سُئل بن عباس عن قوله تعالى: (وكان عرشه على الماء) على أي شيء كان الماء؟ قال: على متن الريح” انتهى كلام مختصر ابن كثير.
وجاء في سورة غافر قوله تعالى: (رَفِيعُ الدَّرَجَاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلَاقِ (15))، ويقول مختصر تفسير ابن كثير حول هذه الآية: “يقول تعالى مخبرا عن عظمته وكبريائه، وارتفاع عرشه العظيم العالي على جميع مخلوقاته كالسقف لها، كما قال تعالى في سورة المعارج: (تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)). وقد ذكر غير واحد أن العرش من ياقوتة حمراء اتساع ما بين قطريه مسيرة خمسين ألف سنة، وارتفاعه عن الأرض السابعة مسيرة خمسين ألف سنة”.
العرش أعظم المخلوقات على الإطلاق
فهذا أيها القاريء الكريم هو العرش أعظم المخلوقات على الإطلاق، هذا هو سقف المخلوقات، إن التفكر في النصوص الواردة عن وصف العرش العظيم يجعلنا نستنتج ما يلي تفكرا حول العرش العظيم:
- قد يأخذ العرش المجيد شكلا مجسما يشبه الكعبة المشرفة، تطوف حوله الملائكة المقربون الذين جاء ذكرهم في سورة غافر في قوله تعالى: (الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَمَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَيُؤْمِنُونَ بِهِ وَيَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آَمَنُوا …. الآية(7))، ويؤكد ذلك ما جاء في كتب التفسير من أن العرش العظيم لا يمثل فلكا كرويا مثل أفلاك السماوات، بل يعتبر سريرا له قوائم، وفيما يخص الاستواء على العرش فنحن نؤمن بما ورد عن السلف الصالح رضوان الله عليهم من أن الله تبارك وتعالى لا يحده مكان ولا زمان، والله أعلم.
- وقد ذكرنا سابقا قول السدي الذي رواه ابن كثير في تفسير آية الكرسي من سورة البقرة: “السماوات والأرض في جوف الكرسي والكرسي بين يدي العرش”، كما أن اعتبار العرش المجيد هو سقف جنة الفردوس الأعلى كما جاء في الأحاديث الشريفة، فيمكن اعتبار أن السماوات والكرسي معلقة أمام أسفل العرش، وأن العرش المجيد يغطي النصف العلوي منها الذي يضم جنة الفردوس، أما النصف السفلي من السماوات الذي يضم النار فيمكن اعتباره بارزا لأسفل دون أن يغطيه العرش المجيد.
- والمتأمل في قوله صلى الله عليه وسلم أن بعد ما بين قطري العرش مسيرة 50 ألف سنة، يمكنه أن يستنتج أن طول كل ضلع من أضلاع العرش المجيد التي تصل بين القطرين هو مسيرة 50 ألف سنة، والله أعلم.
- من هنا يمكننا الوصول إلى أن أبعاد العرش المجيد باستخدام وحدة المسافات الكونية المذكورة في مقال سابق من هذه السلسلة هي: 100 وحدة مسافات كونية لكل ضلع من أضلاع العرش، أما البعد الثالث فيكون 92 وحدة مسافات كونية مع خصم نصف قطر الكرة التي تضم السماوات السبع السفلى.
- ونتوقف هنا مع دعاء الرسول صلى الله عليه وسلم الذي يقول: “سبحان الله وبحمده عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته”، فنتساءل: كم يكون زنة العرش المجيد؟ فكم سيكون حاصل حساب حجم العرش أولا (100 X 100 X 92) مع تحويل الرقم الناتج إلى الكيلومترات المكعبة باعتبار أن وحدة المسافات الكونية تساوي 10 آلاف مليون سنة ضوئية (والسنة الضوئية تساوي 10 تريليون كيلومتر تقريبا)، ثم كم سيكون الوزن الناتج للعرش بعد ضرب رقم الحجم الهائل في 2.5 مقدار كثافة الياقوت المعروف لنا على الأرض؟ أما إذا زادت كثافة ياقوت العرش الأحمر … فلا نملك إلا أن نقول: الله أعلى وأعلم.
- أما عند حساب الحجوم فيتم حساب أبعاد العرش المذكور أعلاه مع خصم حجم نصف الكرة العليا من السماوات السبع والكرسي، كما في الجدول رقم (1)، والله أعلى وأعلم.
راجع أخي القارئ الكريم تلك النصوص وهذه الخواطر المذكورة أعلاه، متأملا في مخطط الكون المقترح (صورة غلاف المقال) وتأمل أيضا في أبعاد الكون المرئي الذي تدرسه أدوات البحث البشرية، وكيف أن نصف قطره يصل إلى حوالي 10 آلاف مليون سنة ضوئية أو يزيد، ويقترح الباحث أن هذه المسافة الهائلة يمكن اعتبارها وحدة واحدة من وحدات المسافات الكونية (باعتبار أن الكون المدرك يمثل المسافة بين الكرة الأرضية وبين السماء الأولى وفق فهم بعض علماء الفلك المسلمين للأحاديث النبوية؛ كما ذكر معلمي، 2011).
وبناء عليه يمكن أن نأخذ في الاعتبار الأرقام المدرجة في الجدول (1) للاسترشاد به عند مقارنة أقطار وحجوم مكونات الكون الكبير، مع ملاحظة أن هذه الأرقام مستنتجة من الحديث النبوي الذي يشير إلى أن المسافة من الأرض إلى السماء الأولى (أو ما يعتبره الباحث أنه الكون المدرك) هي مسيرة 500 سنة، وأن سمك كل سماء والمسافة بين كل سماء وسماء هي مسيرة 500 سنة أيضا، وكذلك سمك كل من الأرضين السبع والمسافة بين كل منها نفس المسافة، وبين السماء السابعة والكرسي نفس المسافة، وأن المسافة بين قطري العرش مسيرة 50000 سنة، والمسافة بين أعلى العرش وبين الأرض السابعة السفلى مسيرة 50000 سنة كذلك.
جدول (1): ((لو كان الجدول غير ظاهر، نرجو الضغط على الفراغ أعلى هذا الكلام))
- راجع أيها القارئ الكريم وتخيل كيف أن السماوات السبع والأرضين السبع من هذا الكون الكبير ليست إلا أقل من جزء من مائة جزء حجما من الكون الكبير الذي يمثل العرش العظيم فيه ما يقرب من 100% منه.
- راجع وتذكر أن ما يعرفه البشر من آلاف ملايين المجرات في الكون المدرك ليست إلا أقل من ثلاثة أجزاء من مليون جزء حجما من الكون الكبير.
- راجع واستنتج وتفكر وكن على يقين أن علوم البشر جميعها ليست إلا قطرة في بحور العلم الإلهي.
راجع وتعالى نقول سويا: (رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ (191)) كما ورد من دعاء المؤمنين المتفكرين في عظيم خلق الله في نهاية سورة آل عمران.
وقد استعرض المقال عددا من النصوص الشرعية حول وصف العرش العظيم، كما عرض الجدول رقم (1) مقارنة رقمية تقريبية مقترحة بين مكونات الكون بناء على ما ورد من أحاديث أو روايات، وأبرز تلك الأرقام يشير إلى أن العرش يمثل 98.9% من الكون الكبير حجما (والله أعلم)، في حين أن الكون المدرك يمثل أقل من ثلاثة أجزاء من مليون جزء من ذلك الكون. ونختم هنا بالإشارة إلى قول الإمام القشيري (المتوفى في منتصف القرن الخامس الهجري) المذكور أعلاه أن العرش من جملة الكون، حيث نؤكد على أن العرش هو أجمل وأعظم المخلوقات في الكون، وهو من جملة الكون، بل هو أعظم ما في الكون، والله أعلى وأعلم.
المراجع:
أضواء البيان في إيضاح القرآن بالقرآن: الشنقيطي (معاصر).
تفسير ابن كثير: تفسير القرآن العظيم )700 – 774 هـ).
تفسير القشيري (ت 465 هـ) لطائف الإشارات.
صحيح البخاري (ت 256 هـ).
صحيح مسلم (206 – 261 هـ).
مسند الإمام أحمد بن حنبل (164-241هـ).
معلمي، خليل (2011) وهم نظرية الانفجار العظيم ووجود الأراضي السبع، (موقع أهل القرآن).
بقلم: د.سعد كامل
أستاذ مشارك في الجيولوجيا – الإسكندرية – مصر
saadkma2005@yahoo.com