أراء وقراءات

من “الرمز” إلى “التريند”: كيف تغيّر نموذج القدوة في عصر المنصات؟

بقلم / الدكتورة هناء خليفة

 

في عصور سابقة، كانت القدوة تُبنى على الإنجاز الحقيقي: عالم قدّم اختراعًا، مفكر ألّف كتابًا غيّر العقول، أو معلم زرع القيم في أجيال.

أما اليوم، فيكفي أن تنشر رقصة على تيك توك، أو فيديو درامي على إنستغرام، لتصبح “رمزًا”… وربما قدوة.

مرّ مفهوم “الرمز” بتحولات جذرية في عصر الإعلام الرقمي، لم يعد يُقاس بالقيمة، بل بالتفاعل، ولم يعد يوجّه الوعي نحو الإنجاز، بل نحو “الانتشار”.

فكيف تغيّرت صناعة الرموز؟ وما أثر ذلك على وعي الأفراد والمجتمعات، خاصة في فئة الشباب؟

من الرمز إلى التريند: كيف تغيّر المفهوم؟

يشير علماء الاجتماع إلى أن “الرمز” كان يُعبّر عن شخص أو فكرة تشكّل مرجعية معنوية أو فكرية للمجتمع، لكنه اليوم بات يُصنع بشكل أسرع، أسهل، وأحيانًا أكثر سطحية.

وفقًا لدراسة نشرها Pew Research Center (2023):

-78 %من الشباب تحت سن 25 يعتبرون أن “التريند” هو معيار الاهتمام والجدارة بالمتابعة.

-52 % من المراهقين لا يعرفون أسماء علماء أو مثقفين في مجتمعاتهم، لكنهم يتابعون مشاهير “التحديات” يوميًا.

كيف تُصنع الرموز في عصر المنصات؟

١-  الخوارزميات أولاً: ما يظهر للمستخدم لا يعكس القيمة بل “ما يثير التفاعل”. وبالتالي تُسلّط الأضواء على من يجيد إثارة الانتباه، لا من يقدم محتوى قيّمي.

٢-  التكرار يصنع الشرعية: عندما تتكرر صورة أو اسم بشكل مستمر، يبدأ الدماغ في تصنيفه كـ”موثوق” أو “مؤثر”، حتى بدون معرفة خلفيته.

٣-  التحفيز الفوري (Instant Validation): زر الإعجاب والتعليق والمشاركة يمنح شعورًا زائفًا بالأهمية، مما يعزز حضور رموز “الترفيه السريع” على حساب رموز “المعرفة العميقة”.

٤- غياب البدائل المرئية: في  ظل ضعف وجود رموز فكرية أو تربوية على المنصات، يتم ملء الفراغ بشخصيات تسويقية أو ترفيهية.

النتائج: من القدوة الملهمة إلى النموذج الاستهلاكي:

▪️انهيار مفهوم الجدارة: لم يعد الإنجاز العلمي أو الأخلاقي هو المعيار، بل “عدد المتابعين”.

▪️تسليع الشخصية: يُعاد تشكيل الأفراد لتناسب متطلبات الخوارزميات لا القيم.

▪️فقدان البوصلة التربوية: الأطفال والمراهقون يتعلمون من الشاشة أكثر مما يتعلمون من البيت أو المدرسة.

▪️تفكك النموذج المجتمعي: تتبدل الرموز سريعًا، فلا يبقى في الأذهان نموذج مستقر يُحتذى به.

كيف نعيد بناء مفهوم “الرمز”؟

١- نشر الرموز الحقيقية بصيغة رقمية جذابة: تقديم العلماء والمفكرين والمبدعين بأسلوب بصري حديث ينافس الإنفلونسرز.

٢- دعم المحتوى العميق على المنصات: بالتفاعل والمشاركة وفتح الحوار حوله.

٣- تربية الأطفال على التمييز بين “الشهرة” و”القيمة”.

٤- إشراك الشباب في صنع محتوى يكرّس رموزًا إيجابية من بيئتهم ومجتمعهم.

٥-  خلق بيئة إعلامية تشجع التفكير لا التكرار.

من يتصدر الشاشات… يتصدر العقول

لم تعد الرموز تُفرض من أعلى، بل تُصنع من خلال اختياراتنا اليومية على المنصات.

كل متابعة، كل إعجاب، كل إعادة نشر… هي لبنة في بناء وعي جمعي جديد.

فهل نمنح هذا الوعي لمجرد “وجه مشهور”، أم نعيد صياغته لصالح قيم نبني بها أجيالًا تدرك، تُفكّر، وتعرف كيف تختار رمزها الحقيقي؟

الرمز ليس من يتصدر التريند…

بل من يُبقي أثرًا في العقول، حتى بعد أن يمر التريند.

دكتورة هناء خليفة 

دكتوراة في الإعلام من كليه الاداب جامعه المنصورة
مهتمة بقضايا الفكر والوعي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى