الصراط المستقيم

من الكنوز المخبوءة لسورة الفاتحة

كتب: عادل الشريف.

لايتخيل كثير من الناس مدى عظم الإرتقاءات التي يرتقونها عند قراءة الفاتحة ، إنها يامسكين تأخذك من أرض الصلاة التي تقف عليها إلى ساحة القداسة والتشريف والمجد والعظمة والجلال والكمال والفخامة والنور والسلام …. عند رب العزة والجلال …. عند الملك القدوس …. عند الحسيب الجليل … عند بديع السموات والأرض …… وأسوق تدليلاً على ذالك ثلاثة أدلة :

إن إنتقالك من صيغة الغائب متحدثا عن الله من أول (بسم الله الرحمن الرحيم ، ومرورا بالحمد لله رب العالمين ، والرحمن الرحيم ، وانتهاءً بمالك يوم الدين) …… إلى صيغة المُخاطب عند قولك ( إياك نعبد وإياك نستعين ) ، فإذا ذُكر الإسم غاب المُسمى ، وعند قولك : بسم الله الرحمن الرحيم فقد ذكرت أسماء الله فهو غائب غيابا عينيا ، وكذالك عند قولك الحمدلله رب العالمين ، الرحمن الرحيم ، ومالك يوم الدين ، فأنت في هذه المقاطع كلها تتحدث عن الله ، فإذا قلت : إياك نعبد وإياك نستعين ، فأنت حينئذٍ تحدثُ الله …. فهذا الإنتقال الذي حدث من الحديث عن الله إلى الحديث إلى الله هو أول دليل على الإرتقاءات الخيالية الأسطورية التي لايستطيع أوسع المخلوقين خيالاً أن يتخيلها ، ولماذا حدثت تلك الإرتقاءات ؟ لإنك يامسكين تقول كلمات غاية في الجمال والجلال والقداسة ، لاتتنبه إلى قدرها لإنك ألفتها ، ولم تتدبر من قبل فحواها ، ولا معانيها ، ولا مبانيها ، ولاعمق العقيدة الراسخة التي تحفرها في قلبك هذه الكلمات ، ولاقداسة الصلة التي تقيمها هذه الكلمات بينك أيها المسكين القليل العاجز المقهور بالبرد والحر ، والمقهور بالجوع والعطش ، والمقهور بالنقص والعجز ، والمقهور بالمرض والموت . …. وبين الملك الحق المبين ، وهذا هو الدليل الثاني ولذالك أسمى الله تعالى الفاتحة باسم الصلاة ، ففي الحديث القدسي الجليل برواية الشيخين البخاري ومسلم في صحيحيهما : ( قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين ، فإذا قال العبد : الحمدلله رب العالمين…. قال الله :حمدني عبدي ، فإذا قال العبد :الرحمن الرحيم ….. قال الله :أثنى علي عبدي ، فإذا قال العبد : مالك يوم الدين …. قال الله :مجدني عبدي ، فإذا قال العبد : إياك نعبد وإياك نستعين …. قال الله : هذا بيني وبين عبدي ، فإذا قال :إهدنا الصراط المستقيم …….. الخ …. قال الله تعالى : هذا لعبدي ولعبدي ماسئل ….. فهل يتم هذا الحوار القدسي المجيد وأنت قابع على أرض الذباب والهوام والكذب والفجور …. أم أنك ترتقي لتتسق مع المجد والعظمة التي صرت إليهما ، وهذا هو الدليل الثالث ، فلقد صرت عظيما فخما مجيدا بعظمة وفخامة ومجد ماتقول ، ولذالك لاتقول : إياك أعبد وإياك أستعين ، ولاتقول :إهدني الصراط المستقيم …. بل تقول بصيغة الفخامة والفخر والعز : إياك نعبد ، وإياك نستعين ، إهدنا الصراط المستقيم …
….. .

فإذا ما وصلت إلى ساحة القداسة والتشريف والمجد والعز والفخامة والجلال والكمال لتقول للملك الحق المبين ذي الجلال والإكرام أقدس كلمات توحيده : إياك نعبد وإياك نستعين …. فهل تراه يصرفك من ساحة عزه ومجده وكرمه من غير عطاء من كريم عطاياه ، ومنحة من أعاظم منحه ، وهدية من جلائل هداياه ؟
…… إن من يصل إلى ملوك الأرض ووجهائها ليقول لهم كلمات الولاء لهم ، والإعتزاز بصلته بهم لايصرفونه من غير عطاء يليق بمكانتهم ، ويليق بالكلمات التي قالها واردهم ، فهل تراك لاتوقن أن الله العلي الأعلى الوهّاب الكريم لن يعطيك عطاءً يليق بجلال وجهه وعظيم سلطانه ….. إنه لن يعطيك فقط … بل سيدلك على أهم وأعظم وأرقى وأطيب وأحوج ماتحتاج إليه ….. لإنك به ستُزحزح عن الخلود في النار لتخلد في جنة الخلد والكرامة والسعادة التي لا تنقطع …. إن أعظم هدية ستطلبها عقب مقطع إعتباري مؤداه ، مادمت ياعبدي تعرف قدرنا وقدرتناوعظمتنا وجلال سلطاننا ، فسلْ تُعطْ ، وادعْ تُجب ….. فإذا بك تطلب أغلى ماتحتاج إليه للحياة الكاملة ، والنجاة الآكدة ، والخلود البهيج ، إنك تطلب : هدية الصراط المستقيم ….

… . إنك لاتطلب هداية الصراط المستقيم مرة في العمر ، إنك تطلبه في اليوم الواحد عشرين مرة على الأقل ، وفي الشهر ستمائة مرة على الأقل ، وفي السنة 7200 مرة على الأقل ، وفي العشر سنوات 72.000 مرة على الأقل ….. وبرغم ذالك فإن الأمة في مجموعها لاتدري أنها تطلب أهم طلب ولاأحوج طلب ، ولاتدري أنها تلح إلحاحا إسطوريا في طلب هذا الطلب ..والسبب….. .؟ ……. لإن الأمة تؤدي أعمال العبادة وفق التقليد والعادة ، وليس وفق القصد والعبادة ….. كأنها أمة من القردة في تقليد الحركات ، ومن الببغاوات في تقليد الكلمات …….
…… خرج الحسن البصري من بيته لأداء صلاة العصر ، فوجد جارا له في الطريق ، فبعد أن سلم على الجار سأله : أين تقصد ياأخي؟ ، فتعجب الجار من سؤاله ثم أجابه : إلى المسجد لأصلي
فسأله الحسن : عادة أم عبادة؟ ، فأجاب الرجل : بل عبادة (كما يجيب الجميع بتلقائية) ، فقال الحسن : خير إن شاءالله ، فسأل الرجل الحسن ؛ فماذا لو كانت الأولى (يسأل عن شأن الصلاة من قبيل العادة) ؟ ، فأجاب الحسن أجابة بالغة الخطر فقال : فمكثك في بيتك وملاعبة أهلك وولدك خيرٌ لك ، فاستشعر الرجل خطورة الأمر فسأل : وإن كانت الثانية ياإمام ؟ ….. فأجاب الحسن : فتلك والله التي من أجلها خلق الله السماوات والأرض ، وجعل الظلمات والنور ، وأنزل الكتب ، وأقّتَ الرسل ، وجعل القيامة والموازين ، والجنة والنار ……. أي أن العبادة القاصدة هي التي إستحقت هذه المنظومة الكونية الرهيبة ، ولذالك كانت من وصايا لقمان الحكيم لولده ( واقصد في مشيك / أي نية لله في كل عمل وحركة ومقال)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.