بقلم / د. هناء خليفة
شهدت الأسرة خلال العقدين الأخيرين تحولات جوهرية في نمط علاقاتها الداخلية، بفعل الثورة الرقمية وانتشار وسائل التكنولوجيا الحديثة. فلم تعد “اللمة” العائلية تحتل مركز المشهد الأسري كما في السابق، بل حلّ مكانها شكل جديد من التواصل، يعتمد على “اللايك” و”الرسائل النصية” و”التفاعل الافتراضي”، ما أفرز أنماطًا جديدة من العلاقات، قد تبدو ظاهريًا أكثر تواصلًا، لكنها تخفي في طيّاتها نوعًا من التفكك الصامت.
التحوّل من التواصل الوجهي إلى الرقمي
تشير العديد من الدراسات الاجتماعية إلى أن أحد أبرز آثار التكنولوجيا على الأسرة هو تراجع التواصل الوجهي المباشر، مقابل ازدياد الاعتماد على وسائل الاتصال الرقمية. فبينما كانت اللقاءات العائلية فرصة لتبادل المشاعر وتفريغ الضغوط النفسية، أصبحت كثير من الحوارات تُختصر في رموز تعبيرية ورسائل سريعة، تفقد الحوار عمقه الإنساني.
التباعد العاطفي داخل البيت الواحد
رغم وجود أفراد الأسرة في مكان واحد، فإن انشغال كل فرد بعالمه الرقمي أدى إلى نشوء ما يُعرف بـ”العزلة الاجتماعية الرقمية”. حيث تشير الإحصاءات إلى أن متوسط الوقت الذي يقضيه الأفراد على هواتفهم الذكية يتجاوز أحيانًا 5 ساعات يوميًا، وهو وقت يُقتطع غالبًا من التفاعل الأسري. ونتيجة لذلك، تتراجع فرص التفاهم، وتزداد احتمالات سوء الفهم وتفكك الروابط الأسرية.
فجوة الأجيال وتضارب القيم
خلقت التكنولوجيا فجوة واضحة بين الجيل الرقمي (الأبناء) والجيل التقليدي (الآباء) فبينما يرى الأبوان أن التواصل الحقيقي لا يتم إلا بالحوار المباشر والمجالسة، يجد الأبناء في المنصات الرقمية وسيلة طبيعية للتعبير والتواصل، مما يخلق أحيانًا صراعًا غير معلن داخل الأسرة حول أنماط السلوك والقيم المرجعية.
السؤال هنا هل هناك جوانب إيجابية؟
رغم التحديات، لا يمكن إغفال الجوانب الإيجابية للتكنولوجيا، فقد ساهمت في تقوية الروابط العائلية الممتدة عبر المسافات، من خلال مكالمات الفيديو والمجموعات العائلية التي تسهل مشاركة الأخبار واللحظات الخاصة. كما وفّرت فرصًا تعليمية وترفيهية مشتركة، يمكن للأسرة استثمارها لتعزيز التفاعل الإيجابي.
نحو توازن رقمي داخل الأسرة
الحل لا يكمن في رفض التكنولوجيا، بل في ترشيد استخدامها. توصي الدراسات بوضع قواعد تنظيمية داخل البيت، مثل تخصيص وقت خالٍ من الشاشات، وتشجيع الأنشطة المشتركة، وتعزيز ثقافة الحوار بين أفراد الأسرة. فبناء وعي رقمي مشترك يمكن أن يكون الخطوة الأولى نحو استعادة “اللمة” المفقودة في ظل عالم تحكمه “اللايكات”.
وفي الختام أؤكد دائما أن أسرة هي الخلية الأساسية للمجتمع، واستقرارها النفسي والاجتماعي مرهون بمدى قدرتها على التكيّف مع التغيرات المعاصرة دون أن تفقد جوهرها. وبين اللمة واللايك، تظل المسؤولية مشتركة في أن نُعيد للبيت دفئه الإنساني، وأن نُعلّم أبناءنا أن العالم الرقمي يجب أن يكون وسيلة للتواصل، لا بديلاً عنه.
دكتورة هناء خليفة
دكتوراة في الإعلام من كليه الاداب جامعه المنصورة
مهتمة بقضايا الفكر والوعي