من حوت يونس إلى خان يونس: حين تكلم البحر باسم غزة

بقلم أيقونة الاتزان / السفير د. أحمد سمير
ظهر على شاطئ خان يونس جنوب قطاع غزة، في صباحٍ مشحونٍ بالرهبة والمفاجأة، مشهدٌ بدا كأنه خرج من فيلم خيالٍ علمي: جسد حوتٍ ضخمٍ، تجاوز طوله عشرة أمتار، وبلغ وزنه قرابة طنين، مكسوّ بقطراتٍ متلألئةٍ من ماء البحر، ملقى على الرمال الذهبية.
تجمّع الناس ببطء حوله؛ بعضهم يرمقه بحذر، وآخرون يضعون أيديهم على صدورهم، فيما ارتفعت أصوات الأطفال بفضولٍ بريء، كأنهم يشاهدون مشهدًا من كتابٍ أسطوري.
كان الهواء محمَّلًا برائحة البحر الممزوجة بالأمل والدهشة والخوف، وتقاطُعُ النظرات وتمتمات الناس خلق لحظةً شعر فيها الجميع أن الزمن توقّف قليلًا.
الدهشة الأولى تحوّلت سريعًا إلى فيضٍ من التساؤلات والتأملات :كيف لبحرٍ كبيرٍ أن يشعر بهم ويُلقي بأحد أسراره إلى شاطئٍ صغيرٍ محاصرٍ بالجوع؟
همس البعض: «هل هذه معجزة؟»، ورفع أعينهم إلى السماء وكأنهم يبحثون عن تفسيرٍ روحيٍّ في مجتمعٍ أنهكته سنواتُ الحصار.
رسالة رمزية متعدّدة الأوجه
لم يكن الحدث مجرّد واقعةٍ بيئيةٍ عابرة، بل بدا رسالةً رمزيةً متعدّدة الأوجه: عن قدرة الطبيعة على المفاجأة، وعن هشاشة الإنسان أمام قسوة الوجود، وعن بارقة أملٍ تُذكّر بأن هذا العالم رغم صمته ما زال يحتفظ ببعض الدهشة لمن تخلّى عنهم الجميع.
من الناحية الاجتماعية والنفسية، أثار المشهد موجةً متباينةً من المشاعر:
بعضهم وجده مساحةً للتأمل الجماعي، لحظةً نادرةً من التقارب الإنساني وسط الانقسام والمعاناة.
آخرون رأوا فيه علامةً سماويًا، رسالةً من الغيب لتذكير البشر بضعفهم أمام قدرة الخالق.
سرعان ما تحولت المقاهي والحارات إلى منابر لتأويل الحدث: فُقهاء محلّيون تحدّثوا عن الدلالات الروحية، وشبابٌ قرأوه بعينٍ نقديةٍ رافضةٍ لفكرة “المعجزة”، معتبرين أن الحقيقة أعمق من الخرافة، وأن الرمز أبلغ من الأسطورة.
البحر أكثر سخاءً من البشر
غير أن المشهد لا يمكن فصله عن الواقع الأوسع والاسوء لغزة، المدينة التي تحيا بين رماد الحرب وضيق الحصار: نقصٌ في الغذاء والدواء، بنيةٌ تحتيةٌ متهالكة، واعتمادٌ متزايدٌ على المساعدات التي لا تكفي.
في وسط هذا المشهد، بدا البحر أكثر سخاءً من البشر؛ يُلقي بجسدٍ ضخمٍ على شاطئٍ مكتظٍ بأناسٍ يعانون من الجوع.
فبحسب التقديراتٍ، يكفي لحم الحوت لإطعام نحو 14 ألف شخص وكأن الطبيعة قدّمت ما عجزت عنه السياسات.
هنا، يتصادم فيض الطبيعة مع ندرة الإنسانية، فيتناسل السؤال الأكبر:
هل هو إهمالٌ دولي؟ فشلٌ في إدارة المساعدات؟ أم فصلٌ جديدٌ من مسلسل المعاناة الطويل؟
تحت هذا المشهد الرمزي، ظهرت قراءاتٌ دينية وروحية أكثر اتزانًا من كونها علمية: قال بعضهم: “ربما هو تعويضٌ إلهي عمّا فُقد”، وقال آخرون: “ليس معجزةً بالمعنى السماوي، لكنه أملٌ في زمنٍ بلا أمل”
وبين يقين المؤمنين وشكّ العقلانيين، يظلّ شيءٌ واحدٌ مؤكدًا: أنّ العالم لم يعد يسمع إلا نفسه، وأنّ غزة ما زالت تصرخ بصمتٍ يسمعه الله قبل البشر.
الصمود في غزة فعلُ إيمان يوميّ
الصمود هنا ليس شعارًا، بل فعلُ إيمانٍ يوميٌّ ضد النسيان؛ إيمانٌ لا يقتصر على الدين وحده، بل يمتدّ إلى الإيمان بالإنسان، بالعدل، وبقدرة التضامن الحقيقي على إعادة التوازن لعالمٍ مائلٍ على كفة الظلم.
ربما لم يكن ظهور الحوت خرقًا لقوانين الطبيعة بقدر ما كان صرخة الطبيعة ذاتها في وجه عالمٍ نسي إنسانيته.
فالحوت، في رمزيته، لم يأتِ ليُدهش، بل ليذكّر، ليقول للعالم:
“من لا يسمع أنين غزة، سيغرق يومًا في صمته”
في نهاية المطاف، يبقى السؤال الذي يلمس شريان الضمير: هل سيتحول هذا المشهدُ إلى مجرد قصةٍ تُروى، أم إلى بداية جديد من التضامن الفعلي والعدالة التي تستحقها غزة وسكانُها؟
السفير د. أحمد سمير
عضو هيئة ملهمي ومستشاري الأمم المتحدة
السفير الأممي للشراكة المجتمعية
رئيس مؤسسة الحياة المتزنة العالمية






