وفاة الشاهد على كل العصور .. الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل
توفى الكاتب الصحفي الكبير محمد حسنين هيكل الأربعاء 17 فبراير 2016 عن عمر يبلغ 92 عاما. واشتهر هيكل محليا وعربيا ودوليا خلال رئاسته لتحرير صحيفة الأهرام وعينه الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وزيرا للإرشاد القومي عام 1970.
قضى هيكل أكثر من 70 عاما عاملا بالصحافة. وخلال رحلة طويلة بين الصحافة والسياسة كان صديقا مقربا لملوك ورؤساء أبرزهم في حياته المهنية عبد الناصر وبينهم الملك عبد الله أول من حكم الأردن وأحمد بن بلة أول رئيس للجزائر بعد استقلالها عام 1962 ومحمد رضا بهلوي آخر حكام إيران وآية الله الخميني زعيم الثورة الإيرانية التي أنهت حكم الشاه عام 1979.
ولهيكل كتب كانت من الأكثر مبيعا بينها (خريف الغضب) و(مدافع آية الله).
رحلة حياته المهنية داخل بلاط صاحبة الجلالة تجاوزت سبعة عقود من الزمن كان شاهدًا على كل العصور. فى فبراير عام 1943 التحق “الجورنالجى” بجريدة الإيجيشبان جازيت كمحرر تحت التمرين.. لم يتوقع أحد حينها ما سيصبو إليه ذلك الشاب الأسمر قصير القامة.. والجسد الهزيل من مكانة رفيعة فى عالم الصحافة.. وسيكون صدى كلمات قلمه الرصاص أقوى أحيانًا من طلقات الرصاص.
بداية الرحلة
البداية الحقيقة لها كانت مُحررًا على خط النار.. ما أروعها بداية لصحفى شاب جاءته الفرصة لمتابعة ويلات الحرب العالمية الثانية التى حطت أوزارها على صحراء مصر الغربية.. بعدما فضل رئيس تحريره أن تكون هناك أعين مصرية لمتابعة الحدث.. إذ كان الإنجليز فى مواجهة الألمان بـ”معركة العلمين”.
ووفقا لتقرير لصحيفة ” اليوم السابع” فان بصمات هيكل الصحفية فى الإيجيشبان جازيت لم تقتصر على تغطية أنباء معركة العالمين مع زملائه بل كان قد دوّن فى سجله وقتها تغطية حادثة مقتل خط الصعيد.. وبعدها أجرى تحقيقه الأول عن بيوت الدعارة المرخصة فى حى الفجالة وفمّ الخليج بالقاهرة بعد قرار إلغاء نشاط البغاء فى مصر.
فالجميع أيقن بوجود صحفى كبير الموهبة رغم صغر سنه.. من خلال إجراء تحقيق عن وباء الملاريا الذى انتشر فى محافظة أسيوط آنذاك. ملامح هيكل الصحافية شكلتها بدايته فى الايجيشبان جازيت تحت قيادة كل من سكوت واطسون صاحب الثقافة اليسارية النابعة من تجربته فى الحرب الأهلية الإسبانية، وهارولد إيرل، رئيس تحريره الذى وصفه بالصحفى الكلاسيكى القدير.
وبعد عام تقريبًا انتقل هيكل للعمل فى جريدة “آخر ساعة” التى ترأس تحريرها فى ذلك الوقت محمد التابعى الذى أقنعه بضرورة الانتقال إلى العمل باللغة العربية حيث الانتشار الأوسع. وعن تلك الفترة يقول الكاتب الصحفى صلاح منتصر فى رواية لها عن الأستاذ:” قد كان من حظى أن بدأت مشوارى الصحفى مع الأستاذ فى مجلة آخر ساعة فى مارس 1953، وذهبت الأستاذ إلى «الأهرام» مما أعطانى شرف العمل معه 21 سنة متواصلة إلى آخر يوم ترك بعده الأهرام فى أول فبراير 1974، مضيفًا فى عدد تذكارى نشره الأهرام فى بمناسبة عيد مولده:”ذات يوم جمعنا “الأستاذ” فى شهر أبريل 1953 فى غرفته بآخر ساعة وراح يقرأ علينا فى زهو ـ نحن التلاميذ ـ ما كتبه للنشر فى آخر ساعة بعد أيام .. ولم تكن هذه عادة الأستاذ، فقد كانت أول مرة يفعل فيها ذلك، ولكن دون أن يمنع ذلك ـ كما لاحظت فيما بعد ـ إحساس الأستاذ بالفخر وهو يفاجئنا بخبر .
وتابع حديثه:”عرفنا بعد أن انتهى أنه كان يقرأ علينا الحلقة الأولى من “فلسفة الثورة” التى نشرتها آخر ساعة على ثلاث حلقات “بقلم جمال عبدالناصر”.. والمؤكد أن زميلا نقل ما حدث، مما أغضب جمال عبد الناصر كثيرا وآخر نشر الحلقتين التاليتين من فلسفة الثورة، لكن الذى حدث أنه منذ ذلك اليوم لم يحدث أن كشف “الأستاذ” عن كلمة كتبها لعبد الناصر رغم أنه كتب له تقريبا معظم خطبه ورسائله ووثائقه ولكن دون أن يقول كلمة واحدة.
واستمر عمل حسنين هيكل فى مجلة “آخر ساعة” إلى أن انتقلت ملكيتها إلى “أخبار اليوم”.. وهنا بدأ المحرر الشاب فصل جديد فى حياته بالعمل مع الأخوين على ومصطفى أمين.. واستطاع خلال تلك الفترة تحقيق نجاحات متعددة أبرزها فى البلقان حيث اشتعال الحرب الأهلية اليونانية.
وقرار على أمين بإرساله إلي أثينا وهناك أجرى سلسلة تحقيقات عن “سالونيكا” بشمال اليونان حصل بها علي جائزة “فاروق الأول للصحافة العربية” للمرة الثانية.. بعدما كان قد حصدها للمرة الأولى عن تحقيقه “الحياة فى قرية الموت” بخصوص انتشار وباء الكوليرا فى قرية القرين بمحافظة الشرقية.
بعد التواجد البلقان حظى هيكل بتغطية حرب فلسطين عام 1984 لتكون الحرب الثالثة التى قام بتغطيتها خلال مسيرته الصحفية.. تلك العلامات المضيئة.. أهلته ليُصبح رئيسًا لتحرير “آخر ساعة” فى 18 يونيو عام 1952 بعد استقالة على أمين.. أى بعد خمس سنوات فقط من انضمامه إليها.
اهرام هيكل
ظل هيكل متمسكا بالتواجد فى أخبار اليوم رغم توالى العروض عليه سواء بقيادة جريدة الجمهورية مثلما طلب عبد الناصر منه ورفضها بداعى أن الثورة ليست فى حاجة لجريدة تكون صوتها.. وأيضًا رفض تولى مسئولية الأهرام فى عام 1956 بداعى أن سياستها التحريرية لا تلائم تكوين الصحفى الذى يعتمد على الخبر فى المقام الأول إلا أنه قبّل مهمة قيادة الأخيرة فى 31 يوليو عام 1957 حتى أول فبراير ليبدأ الفصل الأهم فى حياته برئاسة تحرير الأهرام.
وعلى مدار 17 عامًا.. نجح الكاتب الصحفى فى رسم ملامح تجربة “أهرام هيكل” التى بدأت مع العدد رقم 2600.. ودشن عموده الأسبوعى تحت عنوان “بصراحة” والذى انتظم فى كتابته حتى عام 1994.
وفى يوم 10 يناير عام 1969 كشف هيكل عن كواليس توليه مهمة رئاسة تحرير الأهرام الذى كان أصغر من تولى رئاسة تحريرها فى مقال نشره بالجريدة قال فيه:” فى يوم 6 أبريل 1957 كنت على موعد لفنجان شاى فى نادى الجزيرة مع على الشمس (باشا)، ورحنا نتمشى ساعة الغروب فى أرجاء النادى ومعنا صديق له – لم تكن معرفتى به وثيقة فى ذلك الوقت – وهو الدكتور على الجريتلى – أستاذ الاقتصاد الأشهر.
وتشعب الحديث من السياسة إلى الصحافة وإذا نحن مرة أخرى نعود إلى قصة الأهرام، فقد راح على الشمسى “باشا” يروى لنا:”كيف أن أسرة تقلا تواجه فى شأن جريدتها مشاكل معقدة – خسائر زادت على مليون ونصف مليون جنيه فى السنوات العشر الأخيرة وتوزيع تدنى إلى حدود 60 ألف نسخة – ولقد ورثت الأسرة مجموعة مصالح فى لبنان بينها نصيب أغلبية فى بنك صباغ – أسرة السيدة رينيه تقلا – ثم كيف أن الأسرة الآن تفكر جدياً فى بيع الأهرام!”.
وأضاف هيكل:”بدون أية حسابات، ولعله كان العقل الباطن يدفع الكامن فيه على السطح، وجدتنى أقول للشمسى باشا..”أننى سوف أريحه إلى أبعد حد.. فى العام الماضى عرضوا علىَّ الأهرام واعتذرت، وفى هذا العام أنا الذى أعرض نفسى على الأهرام”،.
مضيفا:”كانت ليلة بيضاء ناصعة البياض كثلوج الجبال، ليلة بلا نوم.. فقد اتخذت قراراً مصيرياً فى حياتى. ووجدت أن أمامى مهمتين تسبقان غيرهما من المهام الأولى: أن أقول لجمال عبد الناصر ما فعلت.. والثانية أن أقول الشئ نفسه لأصحاب أخبار اليوم”.
وساهم هيكل فى انتشال الأهرام من كبوتها بإجماع الآراء، واستطاع تطويرها حتى أصبحت واحدة من أهم عشر صحف فى العالم.. كما أنشأ مجموعة المراكز المتخصصة للأهرام ومركز الدراسات السياسية والإستراتجية، إضافة إلى مركز الدراسات الصحفية ومركز توثيق تاريخ مصر المعاصر.. وهنا يقول الكاتب الكبير:” فى عهدى أصبح آلاف من عمال الأهرام يمثلون شيئا مختلفا فى طاقة العمل المصرية، كان عددهم أقل من ثلاثمائة حين دخلت الأهرام وأصبحوا قرابة ستة آلاف حين تركتها، كثيرون منهم أتيحت لهم فرصة التدريب خارج مصر، بل إن بعضهم أضاف فى انجلترا نفسها تحسينات- تكاد تصل إلى درجة الاختراع- على بعض الآلات التى ذهبوا يتدربون عليها”.
هيكل وزيرا
وبخلاف توليه مسئولية الأهرام.. أسند السادات إلى هيكل وزارة الإرشاد القومي عام 1970، والتى قبلها تقديرًا لظروف البلاد التى كانت تمّر بحرب الاستنزاف.. لكن حالة الوئام بين الرئيس والكاتب الصحفى لم تدم طويلاً بعدما اختلف جذريًا حول نتائج حرب أكتوبر 1973 بل استحكم الخلاف منذ زيارة وزير الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر وسياسة مصر الخارجية.. وظلت العلاقة متوترة إلى أن قرر السادات إنهاء علاقة هيكل بالأهرام فى 2 فبراير عام 1974 على أن ينتقل إلى قصر عابدين مستشارا لرئيس الجمهورية.. وغادر هيكل المكتب الذى استقبل فيه أبرز الشخصيات فى العالم مثل المناضل الكوبى جيفارا والفيلسوف الفرنسى سارتر والزعيم ياسر عرفات.