أراء وقراءاتالصراط المستقيم

يحيى بن معاذ الرازي.. خازن جواهر الحكمة

بقلم / حاتم السروي

“إن الله إذا أحب قومًا جذب قلوبهم إليه”.. هذه العبارة التي رواها أبو نعيم الأصبهاني في الحلية عن يحيى بن معاذ الرازي، تلخص لنا حياة هذا الإمام العارف، وحياة كل من شغل نفسه بالله، وهل أعظم من الله عز وجل لينشغل به الحكماء؟ وقد بدا لنا أن الله سبحانه أحب “يحيى بن معاذ الرازي” إذ لا حرج على فضل الله، وهو الذي قال وقوله الحق المبين: “الله يجتبي إليه من يشاء ويهدي إليه من ينيب” فمن أحب الله فهو مريد ومن أحبه الله فهو مريدٌ مُراد، وهكذا كان الرازي الذي لما أخلص لله كافأه بالحكمة.

والحكمة جوهرٌ نفيس لا يصل إليه إلا المجاهدون في سبيل الله، والجهاد لا يكون فقط لعدوٍ ظاهر بل أيضًا لنفس الرجل التي بين جنبيه، فإذا وصلت للحكمة فأي شيءٍ تريد بعدها؟ أي شيء ترتجي من دنياك وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا حسد إلا في اثنتين، رجلٌ آتاه الله مالاً فسلطه على هَلَكَتِه بالحق، ورجل أتاه الله الحكمة فهو يعمل بها ويعلمها” فجعل الحكيم الذي قد لا يكون عنده مال مثل صاحب المال الذي ينفقه في سبيل الله..

هذه هي المعاني التي يعلمها لنا “يحيى بن معاذ الرازي” الذي يقول لنا بوضوح: “من أشخص بقلبه إلى الله انفتحت ينابيع الحكمة من قلبه وجرت على لسانه” وهذه العبارة معنى لحديث رواه يحيى بن معاذ بنفسه عن محمد الطنافسي عن أبي معاوية عن حجاج بن مكحول؛ قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” ما من عبدٍ يخلص العبادة لله أربعين يومًا إلا ظهرت ينابيع الحكمة من قلبه على لسانه” وهذا هو مصدر الحديث: “كشف الخفا: حديث 2361” كما رُوِيَ عن سيدنا سلمان الفارسي رضي الله عنه أنه قال: “إن العبد إذا زهد في الدنيا استنار قلبه بالحكمة، وتعاونت أعضاؤه في العبادة”.

ويعلمنا سيدنا يحيى بن معاذ الرازي أن: “الحكمة تهوي من السماء إلى القلوب فلا تسكن في قلب فيه أربع خصال: الركون إلى الدنيا- همُّ غدٍ- حسدٌ- حب شرف” بمعنى أن الحكمة لا تأتي لرجل صارت الدنيا كل همه، وشغل قلبه بهموم الغد وبات يفكر فيه، وتحرك قلبه بالحسد على ذوي النعم بل ربما حسد من هم أقل منه، أما الذي يستولي عليه حب الظهور والشهرة والصيت عند الناس فهو مطرود ولا شك؛ فإذا تخلص المؤمن من حب الدنيا والاطمئنان إليها، ومن القلق على ما لا يملكه ولا يعرفه وهو الغد ومن الحسد بأن يعرف أن الله هو المعطي المانع ويترك الملك للمالك ومن حب إقبال الناس عليه؛ حينئذٍ يجد الحكمة ميسورة وهي التي تأتيه دون عناء.

ثم لا يصمت “الرازي” بعد هذا؛ بل يعرفنا المصيبة الكبرى، مصيبة؟ وكبرى؟ نعم، إنها أم المصائب.. وما هي بالله عليك يا سيدنا يحيى الرازي؟؟؟ قال: “أعظم مصيبة على الحكيم في اليوم أن يمضي عنه يومه ولا تأتيه فيه هديةٌ من ربه” فهدية الحكيم التي ينتظرها من ربه كل يوم هي الحكمة، ويعدها دليلًا يقينيًا على رضا الله سبحانه وتعلى عنه، فإذا مر عليه يومه دون حكمة جديدة يقتنيها فتلك مصيبة؛ أي أنه لا بد له أن يتعلم كل يوم عن الله، وأن يكتشف جديدًا؛ وإلا فالحرمان من الحكمة علامة غضب الله عليه نتيجة معصية ارتكبها وربما عمل خلاف الأولى، وخلاف الأولى عند أهل الله بمنزلة الحرام.

وإن بداية طريق الحكمة وأجمل هدية من الحكيم سبحانه وتعالى أن يعرف الإنسان نفسه، يعرف صفاتها الذميمة فيتخلى عنها، ويعرف صفاتها الحسنة فينميها؛ وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: “من عرف نفسه فقد عرف ربه” وهذا الحديث للأمانة غير ثابت كما قال النووي رحمه الله، وقال الزركشي في “الدرر المنتثرة في الأحاديث المشتهرة”: “ذكر السمعاني أنه من كلام يحيى بن معاذ الرازي”.. وفي شرح هذه العبارة التي هي في الحقيقة فهم من الرازي لسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وليست بحديث، يقول النووي رحمه الله: “من عرف نفسه بالضعف والافتقار إلى الله والعبودية له، عرف ربه بالقوة والربوبية والكمال المطلق والصفات العُلى”.

وللعبارة الحكيمة تفسيرٌ آخر، وهو أن تعرف أن صفات نفسك على الضد من صفات ربك، فمن عرف نفسه بالجفاء والخطأ، عرف به بالبر والرحمة والوفاء والعطاء، وللسيوطي رحمه الله تفسير بديعٌ يلمس أوتار القلوب إذ يقول في كتابه الرائع “الحاوي للفتاوى”: “من عرف نفسه كما هي، عرف ربه كما هو؛ واعلم أنه لا سبيل إلى معرفة إياك كما إياك؛ فكيف السبيل إلى معرفة إياه كما إياه؟! فكأنه في قوله “من عرف نفسه فقد عرف ربه، علَّق المستحيل على مستحيل؛ لأنه مستحيل أن تعرف نفسك وكيفيتها وكميتها؛ فإذا كنت لا تطيق أن تصف نفسك التي بين جنبيك بكيفية وأينية وسجية وهيكلية، ولا هي بمرئية؛ فكيف يليق بعبوديتك أن تصف الربوبية بكيف وأين؟! وهو مقدس عن الكيف والأين”.. قال السيوطي رحمه الله: وفي ذلك أقول:

قل لمن يفهم عني ما أقول.. قَصِّر القولَ فذا شرحٌ يطول

هو سرٌّ غامضٌ من دونهِ.. ضُرِبَت واللهِ أعناقُ الفحول

أنت لا تعرف إياكَ ولا.. تَدْرِ من أنتَ ولا كيف الوصول

لا ولا تدري صِفاتٌ رُكِّبَت.. فيكَ حارت في خَفاياها العُقول

أين منك الروحُ في جوهرِها.. هل تراها فترى كيف تجول

هذه الأنفاسُ هل تَحْصِرُها؟؟.. لا ولا تدري متى منكَ تزول

أين منكَ العقلُ والفهمُ إذا.. غلب التومُ فقل لي يا جهول

أنت أكل الخبزِ لا تعرفهُ.. كيف يجري منك أم كيف تبول!

فإذا كانت طواياك التي.. بين جنبيكَ كذا فيها خلول

كيف تدري من على العرش استوى؟؟.. لا تقل كيف استوى كيف النزول

كيف تجلى الله أم كيف يُرى.. فلعَمري ليس ذا إلا فُضول

هو لا كيف ولا أين لهُ.. وهْوَ ربُّ الكيف والكيف يحول

وهْوَ فوق الفوق لا فوق لهُ.. وهو في كل النواحي لا يزول

جلَّ ذاتًا وصفاتٍ وسما.. وتعالى قدره عمَّا نقول

وقد يؤيد ما ذهب إليه السيوطي من هذا التفسير البديع أن رجلًا من المُجَسِّمة سأل الرازي فقال: أخبرني عن الله، قال: إلهٌ واحد.. قال الرجل: كيف هو؟ قال الرازي: ملكٌ قادر.. قال الرجل: أين هو؟ قال: بالمِرصاد.. فمل الرجل وتضايق وقال: ليس عن هذا أسألك؛ فقال يحيى بن معاذ: ما جئت تسألني عنه إنما هو صفة المخلوق، وأما صفة الخالق فقد أخبرتك بها..

على أن ثمة عبارة أخرى من الرازي توضح لنا مبتغاه ومراده من العبارة السابقة “من عرف نفسه فقد عرف ربه” حيث يقول: “اطلب نفسك حتى تجدها؛ فإن وجدتها فقد وجدتَّ ربَّك” وقال العلماء: وُجدان النفس أي طلب الخير لها، فمن انحرف عن الجادة فقد أردى نفسه، ألم تسمع قوله عز وجل “وقد خاب من دَسَّاها” فأن تجد نفسك معناه أن تلزمها بشرع الله، وتكون حركاتك كلها لوجه الباري جل شأنه في النوايا والأقوال والأعمال، وحينئذٍ تجد الله مقبلًا عليك.

ويطلب منا الإمام الرازي عدم الاعتراض على العارفين والأساتذة، واحترام الشيوخ واحتمال أسرارهم حيث يقول: “حكمة الجسم في ترك نعيم الدنيا، وحكمة الروح في ترك نعيم العقبى، وحكمة العقل في احتمال أسرار الأولياء؛ فالأولى للزاهدين، والثانية للصادقين، والثالثة للعارفين” والمعنى: لا يصح الجسد إلا بالاعتدال في تلبية متطلباته فلا نسرف في الطعام والنوم، وذلك حتى نتهيأ للعبادة، وتلك هي حكمة الزهاد، فبالزهد تحلو العبادة، وكثرة الأكل تورث الخمول وتقسي القلب.. وحكمة الروح في حب رب الجنة وليس العمل للجنة فقط، أترى إذا لم تكن هناك جنة ترغب فيها ولا نار تهرب منها ما كنت تعبد ربك؟؟ بل يجب أن تعبد ربك لربك وبربك، يعني تعبده مستعينًا به مخلصًا له النية، تعبده لذاته فهو أهلٌ لذلك.. وحكمة العقل التي تزينه في ترك الاعتراض على أهل الله، فإذا أنعم الله عليك بشيخٍ ولي توجه بعلمه إلى قلبك فلا تشك، طالما استقر في فؤادك أنه على شيء، بل صدق وآمن لكي تعقل، فحكمته وإن دقت عليك ستظهر لك ذات مرة وتشعرك بالنشوة والسعادة.

ويخبرنا سيدنا يحيى الرازي أن الحكمة عزيزة فنسمعه الآن يقول: “الناس كثير، والعلماء في الناس قليل؛ والعلماء كثير والفقهاء في العلماء قليل؛ والفقهاء كثير والحكماء في الفقهاء قليل؛ وكلام العلماء يبكي العيون، وكلام الحكماء يبكي القلوب”..

والرازي صوفيٌ مثقف يقدر الكلمة الصادقة من فم الواعظ والخطيب والكاتب، طالما خرجت الكلمة بحكمة، ويقدر حق المثقف في أن يحصل على ثمرة حكمته من المال الحلال فلذلك يخبرنا كما جاء في “صفة الصفوة” لابن الجوزي أن: “الحكيم يشبع من ثمار فيه” أي إن عمله الذي يأكل منه هو ما تدره عليه بنات أفكاره، وهذا عنده من أعظم المهن، وكانت مهنته هو نفسه، فكان رحمه الله يعبد ربه فإذا أراد أن يكتسب مالًا حلالًا أو يقضي دينًا رحل إلى بلدةٍ مجاورة فحدثهم بما فتح الله عليه، ولا يطلب شيئًا بل يأتيه المال فيضع نفسه في حجره ويعود محملًا بالخيرات..

ولأنه كان مثقفًا نراه يقول: “من أحب أن يعرف مكارم الأخلاق فلينظر في فنون الآداب”..

بقي أن نقول أن الرازي رحمه الله هو الذي قال: “أخرج ما في الجيب يعطيك ما في الغيب” وهي في الحقيقة هاتف جاء له لما شرع في التصوف؛ حيث خرج من الري ليبدأ سياحته فوقع في قلبه شأن النفقة فتفكر في أمره فسمع هذا الهاتف.

حاتم السروي.. كاتب صحفي/ شاعر وقاص..

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.