قصة قصيرة بقلم / أيمن سلامة
صباح الخير ..يا”طه”، تلك التحية يسمعها “طه” تقريبا من كل سكان الشارع الذى يقطنه فى الحى العريق القديم بالمدينة الريفية التي يعيش بها، فهو فرد من كل عائلات الشارع، والجميع يعرفونه،
“طه” شاب تخطى العقد الثالث من عمره يعانى من اعاقة عقلية، يبدأ يومه منذ الصباح الباكر فى المسجد لأداء صلاة الفجر، يتوجه بعد ذلك الى المخبز ليندس مبكرا وسط الزحام، بحثا عن بضع عشرات أرغفة الخبز الحار يسرع بها الى منزله ومنازل الجيران حوله .
ومع بداية نشاطه اليومي المعتاد يبدأ في مزاولة عاداته اليومية التي تشمل تبادل اطراف الحديث مع كل من يلتقيه فى طريقه صغارا وكبارا، ويتميز حديثه بالصوت العالي الجهوري وبكلماته الغير مفهومة فى معظم الاحيان، وبعد انتهاء مهامه الصباحية المعتادة، يعود طه الى الشارع مرة اخرى لشراء احتياجات منزله ومنازل الجيران، وطوال الوقت يمارس عاداته اليومية ويزيد عليها فى بعض الاحيان، تناول بعض الطعام مما يمنحه له الجيران نظير خدماته، حيث يرفض ان يأخذ اجرا مقابل خدماته للجميع، لذلك تجد جيوب “الترنج ” الرياضي الذى يرتديه يوميا صيفا وشتاء دائما ممتلئة بحبات الفاكهة أو الخضار التي يمكن تناولها مباشرة دون الحاجة للإعداد.
تنقضي مهام النهار المعتادة، ثم يتجه ” طه ” الى المقهى فى نهاية الشارع يساعد العمال فى ترتيب الجلسة لحضور رواد المقهى فى المساء، ويكتمل بذلك عقد ذلك اليوم حين تنتهى صلاة العشاء، فيعود للمقهى ليتفرج على مباريات كرة القدم، خاصة تلك التي يكون فريقه المفضل أحد اطرافها، فتجد المقهى وقد تحول مع وجود “طه” الى ساحة حرب، فالدفاع عن فريقه مهمة مقدسة بالنسبة له لا تحتمل التأخير.
اعتاد الجميع وجود “طه” وصوته العالي وكلماته الغير مفهومة احيانا، وابتسامته البريئة وطيبة قلبه ومساعدته للجميع طوال الوقت، وتعود الجميع أن يجدوه هنا أو هناك طوال الوقت خاصة في المناسبات العائلية التي قد تخص أية عائلة بالشارع، فهو يتقدم الصفوف فى المناسبات الحزينة و السعيدة ويبذل جهدا كبيرا مع العمال ويشارك اصحاب المناسبة امورهم حتى النهاية.
بعد انتهاء معارك كرة القدم أو المناسبات المختلفة بالشارع، ينتهى المطاف بصاحبنا بالجلوس وحيدا ساكنا مستندا بظهره الى جدار احد المحلات المطلة على المجرى المائي الذى يحيط بالحي من احد جوانبه، تلك هي الحالة الوحيدة التي تراه صامتا فيها، يتفرج ولا يشارك الناس صخب الحياة.
مفردات الحياة بسيطة بالنسبة الى “طه”، فالدنيا في نظره لا تزيد في اتساعها عن شوارع الحى المعدودة التي يقطعها طوال يومه ،ولا يكاد يغادره الا نادرا، لا يعير النقود اى اهتمام، ولا يمتلك اى هموم او مشاكل خاصة ، وان كان مشاركا فى كل مشاكل عائلات الشارع الذى يقطنه، الابتسام وتبادل الحوار واسداء الخدمات للجميع فى عالمه المحدود المعالم ، هى الامور التي تشغل يومه.
ذات صباح وحين كنت أتوجه مبكرا لبعض شؤني، رأيته مصادفة بصوته المرتفع وكلماته الصاخبة وابتسامته السعيدة التي لا تفارق وجهه، فدفعني الفضول للتوقف وتجاذب اطراف الحديث معه، وكان سؤالا واحدا يلح على باستمرار لأعرف اجابته منه، فسألته “انت ليه دايما مبتسم وسعيد كل صباح وفى المساء أراك آخر الليل وحيدا صامتا ؟؟”
فأجابني “يا استاذ الصبح أكون فرحان وسعيد ان ربنا أعطاني يوم جديد أعيشه وسط الناس، وفى المساء يكون اليوم خلص أقعد قلقان يا ترى ها يكون فى بكره يوم جديد تانى ولا.. لأ”، لم اجد ردا على منطقه البسيط، انصرفت وان اسال نفسى ترى لو لم يكن مريضا سيكون هذا منطقه، ،أم كانت دوامة الحياة ستأخذه الى منطق اخر.