قراءات ليلية .. بقلم السفير أشرف عقل
فيما يلى مقال كتبه أخى وصديقى الكريم الأديب المبدع الشاعر والصحفي النابه أسامة مهران عن العبد لله ونشرته صحيفة الأيام البحرينية واسعة الانتشار تحت عنوان ( هامش ) . وفيه يجتر الكاتب ذكريات مضت أثناء عملى فى سفارة مصر فى المنامة ( البحرين ) فى الفترة من ٨٤ حتى نهاية ١٩٨٨ م . وكذلك يتحدث عن واقعة حدثت فى عام ١٩٨٩م عندما كنت أعمل فى سفارة مصر فى تناناريف ( مدغشقر ) ، لم أقم فيها سوى بواجبى تجاه بلادنا العربية وأهلها . فالشكر له على كلماته الطيبة فى حقى ، وأدام الله عليه الصحة والعافية .. آمين .
سفير على خط النار .. بقلم: أسامة مهران
رغم أنني لست مغرمًا بأدب السير الذاتية كونه حزام أمان موغل في الخصوصية ، وكوني متطوعًا يرفض الجلوس على مقاعد الآخرين ، فإنني آثرت أن أكتب عن دبلوماسي وليس عن مصرفي ، عن سفير وليس عن تاجر أو سياسي أو زعيم ، عن تاريخ وليس عن حاضر بالضرورة ، وعن جغرافيا وليس عن أنثروبولوجيا موغلة في التشخيص لخصائص النفس البشرية .
أشرف عقل ، شخصية قد لا يتذكرها الكثيرون في البحرين ، رغم أثرها المحفور ، كان سكرتيرًا ثانيًا في ثمانينيات القرن الماضي بالسفارة المصرية بالمنامة ، وكنت صحفيًا مشاكسًا مع السفارات تمامًا مثلما كنت هكذا مع سواها من المؤسسات التي أرى فيها حراكًا ملموسًا ، وكان أشرف عقل بشبابه الطاغي ، وطموحه الواعد ، وتجلياته المرابطة ، ينزل إلى الشارع البحريني يتجول في فرجانه وأزقته وشخوصه الهادئين ، وكنت أرقبه من بعيد ، كيف لهذا الدبلوماسي الفارع ذلك التفاني في معرفة الآخر ؟ وكيف خرج ربما للمرة الأولى من دبلوماسية رابطة العنق ، وأناقة المكاتب المنشاة إلى البسطاء كي يعاشر ، ويرافق ويفهم ؟ .
البروتوكول الدبلوماسي في السفارات العربية خصوصًا واضح وضوح الشمس ، ربما لا يسمح بتلك الحرية المنتقاة من عبق الأحياء القديمة ، تمامًا مثلما لا يسمح بتلك العشرة التي تتغلب فيها طباع أولاد البلد على هؤلاء المولودين وفي أفواههم ملاعق من ذهب .
أشرف عقل كان دبلوماسيًا بدرجة ابن بلد ، وكان سياسيًا برتبة شعبية لم تصل منظومتنا ” الخارجية ” إلى لقب مناسب لها ، أو حتى إلى لقاح يمنع تجذرها في واقعنا العربي المباغت .
وجدته في ندوات غرفة تجارة وصناعة البحرين ، رغم أن العلاقات الدبلوماسية ” الرسمية ” كانت تشهد مقاطعة عربية بعد ” كامب ديفيد ” ومرفقاتها ، ورغم أن الحالة التي كان عليها وضع التلامس مع مؤسسات المجتمع المدني لم يكن باللياقة التي أصبح عليها فيما بعد ، عندما عادت المياه إلى مجاريها، والعلاقات إلى أوج مراميها .
أحببت الرجل ورافقته وتابعته من قريب ومن بعيد ، وقرأت في خطواته عروبة مع نوع مختلف ، شقائق نعمان من سلالة لصيقة بالحقائق كي تتضح ، وفضائل نخوة حاضنة لرجال رحلوا ولم يعد مثلهم إلى واقعنا الدبلوماسي العربي إلا فيما ندر .
وجدته أيضًا مواظبًا على الحضور في أول مؤتمر دولي للتحكيم تم تلقيبه آنذاك بأول حوار شرق أوسطي للتحكيم العربي الأوروبي ، تابعنا سويًا العلامة القانوني المصري الراحل محسن شقيق ، وتعرفنا معًا على قامات قانونية عربية لعبت أدوارًا في قضايا تحكيم إقليمية لها صفة الضجيج والتأثير في ترسيم الحدود بين الدول على رأسهم القانوني الفارق د. فتحي كميشة الذي تمكن من تجميع الخرائط والأدلة التي أكدت أحقية البحرين في جزر حوار أمام محكمة العدل الدولية .
بعد أن غادر عقل ، لم يكن للعقل أن يستكين ، فهذه هي الدنيا ، حركة دؤوبة نحو الأفضل . عاد الصديق العزيز إلى القاهرة ، وبعدها إلى تناناريف عاصمة مدغشقر ، ليلعب أدوارًا أكثر أهمية ، حيث أنه كان المسئول العربي الوحيد في سفارة متألقة بأقصى الجنوب من أفريقيا وفي عمق أعماق المحيط المطل .
لقد لعب أشرف عقل دورًا بارزًا في إعادة مواطن بحريني يدعى يعقوب الماص إلى وطنه بعد أن جرفته أمواج البحر إلى جزيرة مدغشقر ، عاش التائه هناك سنوات من دون أهل أو أقارب أو لغة مناسبة يتحدث بها مع الناس إلى أن بذلت عائلته في البحرين جهودًا مضنية حتى تلقفها الزميل الصحفي عدنان الموسوي ليسافر مع أحدهم إلى الجزيرة البعيدة ، ويلتقي بالدبلوماسي البارع أشرف عقل ويبذلون سويًا جهودًا جبارة حتى وجدا البحريني المفقود وأعاداه بدبلوماسية ذلك الزمان إلى بلاده معززًا مكرمًا وسليمًا معافى .
تلك قصة واحدة من قصص أشبه بتلك التي يمكن أن نستمع إلى حكاويها على مقاهي ألف ليلة ، أو في أحيائنا الشعبية القديمة ، روايات في اليمن ” السعيد ” عندما كان أشرف عقل سفيرًا لمصر هناك ، وأخرى في رام الله ، وغزة ، وهي تشتعل بالقضية الفلسطينية التي لن تموت ، وغيرها الكثير الكثير في بلجراد ، وموسكو ، والبصرة ، وفي ديوان الوزارة بالقاهرة ، وما خفي كان أعظم .