السيرة النبوية (53) وباء المدينة المنورة يُصيب الصحابة

بقلم الدكتور/ محمد النجار
كانت يثرب “المدينة المنورة”عندما وصل إليها النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه تُعاني من وباء الحُمى-المتوطنة.
فلم تمض أيام على وصول الصحابة اليها إلا وقد أصيبوا بهذا الوباء الشديد ، فأصبح المهاجرون يواجهون آلام الحرارة الشديدة التي أصابتهم في مستقرهم الجديد ، بالإضافة الى آلام الغربة بهجرتهم ديارهم وتركهم أولادهم وأموالهم.
فقد اضطر النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه لمغادرة وطنهم “مكة” لِمَا أصابهم من تعذيب وقتل واضطهاد من الطغاة والجبابرة وأذنابهم في مكة الذين أعماهم الجهل والغباء والحقد والكفر عن رؤية الحق ، فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى يثرب(المدينة) لإقامة دولة الإسلام وإنطلاق دعوته الى كل أرض الله. فما إن وصلوا إلى المدينة المنورة إلا وأصابتهم حُمى المدينة المتوطنة فيها منذ زمن بعيد ، وهذه الحُمى التي رُبما تُسمى حاليا (الملاريا) كما وصفها بعض العلماء في العصر الحديث، او رُبما وُصفت بالحمى القلاعية كما وصفها البروفسور الطبيب مصطفى علوي بالمدينة المنورة .
تقول السيدة عائشة رضي الله عنها :
وقَدِمْنَا المَدِينَةَ وهي أوْبَأُ أرْضِ اللَّهِ،فَكانَ بُطْحَانُ يَجْرِي نَجْلًا. -أي مستنقع ماء راكد عطن ينمو ويتكاثر عليه البعوض والحشرات الضارة.
وتصف تلك الحُمَّى التي أصابت المهاجرين في يثرب ، فتقول :
((لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى صلى الله عليه وسلم المَدِينَةَ وُعِكَ – حُمَّ – أَبُو بَكْرٍ وَبِلاَلٌ ، فَكَانَ أَبُو بَكْرٍ إِذَا أَخَذَتْهُ الحُمَّى يَقُولُ :
كُـلُّ امْرِئٍ مُصَبَّـحٌ فـــي أهْلِــهِ
والمَــوْتُ أدْنَى مِن شِرَاكِ نَعْلِهِ
حرارة الوباء في شعر بلال مؤذن الرسول:
وكانَ بلَالٌ سرعان ما إذَا هدأت حرارة الوباء في جسده -الحُمَّى- يتذكر وطنه”مكة” الذي أَخْرَجه منه الطواغيت الجبابرة وزبانيتهم قساة القلوب ، فكان يرفع عقيرته -صوته- بكلمات يملؤها الحزن والألم حنينا الى “مكة” وطنه الذي يتمنى الرجوع إليه ويبيت فيه حتى لو ليلة واحدة بصحته التي كان عليها قبل مغادرته، ويشرب من مياه وادي “مجنة” القريب من “عكاظ” ، لعل تلك المياه تطفئ حرارة الحُمى التي أصابته وأمسكت بجسده ، كما تطفئ نار حنينه إلى جبال مكة “شامة وطفيل” القريبة من مكة -وطنه- ويشم رائحة كل جبال وأودية مكة .. كان بلال يعبر عن تلك الأشواق بأبياتٍ مِن الشِّعرِ يقولُ:
أَلَا لَيْتَ شِعْرِي هلْ أبِيتَنَّ لَيْلَةً … بوَادٍ وحَوْلِي إذْخِرٌوجَلِيلُ
وَهلْ أرِدَنْ يَوْمًا مِيَاهَ مَجَنَّةٍ…وهلْ يَبْدُوَنْ لي شَامَةٌ وطَفِيلُ
دعاء بلال على الطغاة والجبابرة :
ثم يتذكر بلال رضي الله عنه هؤلاء الجبابرة المجرمين الذين أجبروه على مغادرة وطنه ودياره وأهله الى تلك الديار الجديدة “يثرب”الموبوءة بالمرض والحُمى فضلا عن الألم النفسي الناتج عن غربة الديار ، فتتجه عينه الى السماء ، ويرفع يده الى الله السميع البصير ويدعو على أئمة الكفر من الطغاة والجبابرة أعداء الله وأعداء الانسانية ويقول :
((اللَّهُمَّ الْعَنْ شَيبةَ بنَ رَبِيعَةَ، وعُتْبَةَ بنَ رَبِيعَةَ، وأُمَيَّةَ بنَ خَلَفٍ كما أخْرَجُونَا مِن أرْضِنَا إلى أرْضِ الوَبَاءِ)).
وفي رواية أخرى كما وردت في شرح الزرقاني لموطأ مالك :
قالت السيدة عائشة:
لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة،وُعِك (أبو بكر) الصديق-أي حُمَّ- (وبلال) وعامر بن فهيرة رضي الله عنهم ، وأصاب أصحابه منها بلاء وسقم،وصرف الله ذلك عن نبيه،فَدَخَلْت عليهما لِأَعُودَهُمَا ، (وعند النسائي وابن اسحاق) ، فاستأذنت رسول الله صلى الله عليه وسلم في عيادتهم وذلك قبل أن يُضرب علينا الحجاب ، فإذن لي ، فدخلت عليهم وهم في بيت واحد ، فقلت يا أبت كيف تَجِدك؟ أي كيف تجد نفسك أو جسمك؟ ويابلال كيف تجدك؟ زاد ابن اسحاق: وياعامر-ابن فهيرة-كيف تجدك؟ قالت عائشة: فكان أبو بكر إذا أخذته الحمى يقول:
((كل امرئ مُصَبَّحٌ في أهله ،والموت أدنى من شراك نعله)) .
(ومعناه أن المرء قد يُصبح في ظَاهِرِهِ بخير بينما الموت قريب منه بل أقرب إليه من شراك نعله ، والمقصود بشراك النعل هنا أي أن الموت يحمل الإنسان مثل شرك النعل الذي يمشي فيه الانسان ويحمله من مكان إلى آخر، وهو أي الموت أقرب مايكون منه ).
علاج الجاهلية لوباء المدينة : نهيق الحمار
كيف كان يتم علاج وباء المدينة قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم ؟
كان علاج الأمراض في المدينة بل في الجزيرة العربية وربما في معظم العالم في ذلك الوقت ربما يعتمد في معظمه على التكهُّن والرقى والسحر والتعاويذ والاستعانة بالنجوم والخرافات ،وتعتمد كل قبيلة على عرَّاف يُنزلونه منزلة الكاهن من حيث الإجلال والتقدير يقوم بمعالجة أمراضهم وعللهم بوسائله الخاصة لمعالجة مايصيبهم من علل و أمراض بوسائله الخاصة.
وقد ورد في شرح الزرقاني على موطأ مالك :
عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها أنها قالت: لما قدم رسول الله صلى الله عليه وسلم المدينة في الهجرة وكان وباؤها معروفا في الجاهلية ، وكان الإنسان إذا دخلها وأراد أن يَسْلَمَ من وبائها قيل له:إنهق، فينهق كما ينهق الحمار، وفي ذلك يقول الشاعر :
لعمري لئن غنيت من خيفة الردى…..نهيق الحمار أنني لمروع
و بهذا أختم الحلقة (53) ونلتقي قريبا بإذن الله في الحلقة (54) مع فقه السيرة وظلال النبوة مع ملاحظة احتفاظي بالمراجع لعدم امكانية نشرها في الجريدة في الوقت الحاضر..