السيرة النبوية (54) النبي يتألم من الوباء المنتشر بالمدينة ..ويدعو لها

بقلم / الدكتور محمد النجار

 

ذكرنا في الحلقة السابقة(53) إصابة صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم بوباء المدينة عندما وصلوا اليها مهاجرين ، وقد وصفت السيدة عائشة رضي الله عنها مرض الصحابة بالوباء بأنهم لَيَهْذُون وما يَعْقِلُون من شِدِةِ الحُمى التي أمسكت بأجسادهم ، وكيف كان يصرخ بلال مؤذن الرسول صلى الله عليه وسلم من شدة الألم ويدعو على الطغاة والجبابرة في قريش الذين اضطروهم للخروج من مكة واللجوء الى ديار موبوءة في يثرب، ويتمنى أن يرجع الى مكة حتى لو ليلة واحدة حنينا الى تراب وطنه ودياره ..

 

النبي يتألم من الوباء

وقد تألم النبيُ صلى الله عليه وسلم بشدة لِآلام أصحابه الذين يُعانون من هذا الوباء الذي أصابهم ، بالأضافة لمعاناتهم غربة الوطن في مستقرهم الجديد بعد ما أُخْرِجُوا من ديارهم بغير حق إلا أن يقولوا ربنا الله ، فرفع يده الشريفة إلى السماء متوجها الى الله ودعا .

 

النبي ﷺ يدعو للمدينة

(( اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ، اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في صَاعِنَا وفي مُدِّنَا ، وصَحِّحْهَا لَنَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا إلى الجُحْفَةِ)) أخرجه البخاري ومسلم .

 

 وقدْ دَعا النبي صلى الله عليه وسلم في حَديثٍ آخرَ في الصَّحيحَينِ بأْن تكونَ البركةُ فيها ضِعْفَيْ بَرَكةِ مكَّةَ :

 عن أنس رضي الله عنه ، قال رسول الله ﷺ قال :

((اللَّهُمَّ اجْعَلْ بالمَدِينَةِ ضِعْفَيْ ما جَعَلْتَ بمَكَّةَ مِنَ البَرَكَةِ))رواه البخاري ومسلم

 

وعند ابن اسحاق : 

قالت عائشة رضي الله عنها بعد أن زارت مرضى الوباء : فذكرت ذلك للنبي فقلت : يارسول الله ، إنهم لَيَهْذُون وما يَعْقِلُون من شِدِةِ الحُمى،فنظر النبي ﷺ إلى السماء قال : (((اللَّهُمَّ حَبِّبْ إلَيْنَا المَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أوْ أشَدَّ-وصحِّحْهَا – اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا في صَاعِنَا وفي مُدِّنَا ، وصَحِّحْهَا لَنَا، وانْقُلْ حُمَّاهَا إلى الجُحْفَةِ)))

أين تقع الجحفة : 

مكان على بعد اثنين وثمانين ميلا من مكة وكانت تسمى مَهْيَعَةَ، وكانت يومئذ مسكن اليهود ،ولذا توجه دعاؤه عليهم ، وفيه جواز الدعاء على الكفار بالأمراض والهلاك وللمسلمين بالصحة .

 

جزاء الصبر على ابتلاءات المدينة

وكان النبيّ ﷺ يصبّر أصحابه ـ رضوان الله عليهم ، ويشد من عزمهم، ويبين لهم الأجر والثواب لمن يصبر على ما يجده في المدينة من شدتها وأمراضها، فعن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله ﷺ :

((لا يصبر على لأواء المدينة وشدّتها أحد من أمتي إلا كنت له شفيعا وشهيدا يوم القيامة، ولا يدعها أحد رغبة عنها إلا أبدل الله فيها من هو خير منه)) رواه مسلم .

 

وعن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال : قال رسول الله ﷺ:

((إنِّي أحرِّمُ ما بينَ لابَتَي المدينة كما حَرَّمَ إبراهيم حَرمَه، لا يُقطَعُ عِضاهُها – شجر فِيهِ شوك – ولا يُقتَلُ صَيدُها ، ولا يَخرجُ منها أحدٌ رغبةً عنها إلا أبدلَها اللَّهُ خيرًا منه، والمدينة خيرٌ لَهُم لو كانوا يعلم)) رواه أحمد .

 

استجابة الله دعاء النبي للمدينة بالبركة

استجاب الله الكريم لدعاء النبي ﷺ ، فكانت المدينة أحب إليه من مكة كما جزم به بعضهم ، -لدرجة أنه- كان يحرك دابته -أي يسرعها- إذا رأى المدينة من حبه لها ، وطَيَّبَ هواءَها وترابها ومساكنها والعيش بها ، قال ابن بطال وغيره مَنْ أقام بها يجد من ترابها وحيطانها رائحة طيبة لاتكاد توجد في غيرها ، قال بعضهم وقد تكرر دعاؤه بتحبيبها والبركة في ثمارها .

 

تفسير قياسات الأوزان:

الصَّاعُ: أربعةُ أمداد،ويساوي(2036)جراما في أقلِّ تَقديرٍ،وأعْلى َقْديرٍ(4288)جِرام.

المُـدُّ : مِقدارُ ما يَملَأُ الكَفَّينِ،ويُساوي(509) جِراما أقلِّ تَقديرٍ،وأعْلى تَقديرٍ(1072) جِرام.

 

النبي يرى الوباء وهو يخرج من المدينة

وقد رأى النبي ﷺ في منامه أن وباء الحمى قد أزاحه الله من المدينة ، فعن سالم بن عبدالله عن أبيه أن النبي ﷺ قال :

(( رأيْتُ كأنَّ امرأةً سوداءَ ثائرةَ الرأسِ خرجَتْ منَ المدينةِ حتى قامَتْ بمَهْيَعَةَ وهي الجُحْفَةُ فأولْتُ أن وباءَ المدينةِ نُقِلَ إليها)) رواه البخاري برقم7038 المرجع :فتح الباري لابن حجر العسقلاني ج12/443 وكتاب شرح الزرقاني على الموطأ ج4 ص72

 وفي رواية أخرى بصحيح البخاري :

عن عبدالله بن عمر قال رسول الله ﷺ: رَأَيْتُ امْرَأَةً سَوْدَاءَ ثَائِرَةَ الرَّأْسِ، خَرَجَتْ مِنَ المَدِينَةِ حتَّى نَزَلَتْ بمَهْيَعَةَ، فَتَأَوَّلْتُهَا أنَّ وبَاءَ المَدِينَةِ نُقِلَ إلى مَهْيَعَةَ وهي الجُحْفَةُ.

المصدر : صحيح البخاري ، رقم الحديث : 7039 .

 

وروى البخاري والترمذي وابن ماجه كأن ابن عمر رفعه -أي إلى النبي ﷺ – رأيت في المنام كأن امرأة سوداء ثائرة الرأس خرجت من المدينة حتى نزلت مَهْيَعَةَ فتأولتها أن وباء المدينة نقل إليها))

ولا مانع من تجسم الأعراض خرقا للعادة ليحصل لهم الطمأنينة بإخراجها .

وفي رواية : قَدِمَ إنسانُ من طريق مكة فقال له النبي ﷺ: ((هل لقيت أحداً؟ قال: لا ، إلا امرأة سوداء عريانة. فقال ﷺ: تلك الحمى ، ولن تعود بعد اليوم ))

قال الشريف السمهودي : والموجود الآن من الحمى بالمدينة ليس حمى الوباء ، بل رحمة ربنا ودعوة نبينا للتكفير -عن الذنوب -.

 

ويتبين من تلك الأحاديث النبوية الصحيحة أن المدينة كانت موبوءة بمرض مستوطن أصاب بعض الصحابة في بداية الهجرة ، وقد أصحَّ الله بفضله ثم بدعوة نبيه أصحَّ مستقرهم الجديد في دار الهجرة ، وحبَّبَها إليهم، وجاءت البشرى للنبي في رؤيته الحق في منامه بخروج ذلك الوباء من المدينة التي أصبحت دار الهجرة التي يسكنها النبي وصحابته المؤمنين ، ونزول الوباء في مَهْيَعَةَ”، وَهِي الجُحْفَةُ التي كان يسكنها اليهود والمشركون الذين يكيدون للإسلام ، وفي رأينا أن الله أراد أن يشغلهم بهذا الوباء عن الإسلام – والجُحْفَةُ تقع بيْن مكَّةَ والمدينةِ، وتبعُدُ عن مكَّةَ 190 كيلومترٍ تقريبًا، وهي مِيقَاتُ المصريين وأهلِ الشَّامِ – ويبارك الله للنبي وصحابته في طعامهم وشرابهم وفي مكاييلهم وزروعهم بل حتى في الهواء الذي أصبحوا بتنفسونه في مستقرهم الجديد بالمدينة ، وهذه بركات نزول النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم وصحابته المهاجرين في تلك الديار التي أصبحت مباركة الى يوم الدين.

 

صلاة القاعد نصف صلاة القائم 

خرج النبي صلى الله عليه وسلم لزيارة أصحابه المصابين بالوباء ، وقد وجدهم يُصَّلُون قعودا من شدة ما أصابهم ، فأراد صلى الله عليه وسلم أن يضع قاعدة فقهية عن أجر الصلاة قياما وأجرها قعودا .

فقد أخرج ابن إسحق عن الزهري عن عبدالله بن عمرو بن العاص قال : أصابت الحُمى الصحابة حتى جهدوا مرضا وصرف الله تعالى ذلك عن نبيه حتى ماكانوا يصلون إلا وهم قعود ، فخرج صلى الله عليه وسلم وهم يصلون قعود، فقال لهم :

(((إعلموا أن صلاة القاعد على النصف من صلاة القائم))) ،

فتجشموا القيام أي تكلفوه على مابهم من الضعف والسقم التماس الفضل ، قال السهيلي وفي هذا الخبر وما ذكر من حنينهم الى مكة ماحملت عليه النفوس من حب الوطن والحنين اليه. وهذه القاعدة الفقهية تنسحب فقط على صلاة النافلة للشخص الصحيح الذي ليس به مرض ، فيجوز له أن يصلي النافلة وهو جالس لكن ليس له الأجر كاملا ، وإنما له نصف أجر القائم .

ولا تسري هذه القاعدة على الصلاة المفروضة للشخص السليم ، لأن القيام للصلاة ركن لصحة الصلاة بالنسبة للإنسان الصحيح ، ولو صلى جالسا بطلت صلاته .

عن عمران بن حصين قال سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة المريض فقال:

(((صَلِ قائما ، فإن لم تستطع فقاعدا ، فإن لم تستطع فعلى جنب)))

فمثلا قد يعاني شخص من دوران أثناء القيام أو ألم شديد نتيجة خشونة في الركبة أو انزلاق غضروفي أو ماشابه ذلك ، وأمره الطبيب المختص بالقعود أثناء الركوع أو السجود ، فإنه يقعد أثناء الأركان التي لا يستطيع الإتيان بها، ولا يجوز له القعود بمجرد الدخول في الصلاة.

ونؤكد بأن صلاة الصحيح الذي يستطيع القيام في الصلاة لكنه صلى جالسا فإن صلاته باطلة.

 

دروس مستفادة من حمى المدينة

1. حب الوطن فطرة في الكيان الإنساني ولا لوم عليه ، ولا يتعارض حب الوطن مع حب الله ودينه ورسوله وعقيدته.

2. هجرة الأوطان سنة كونية نتيجة الصراع بين الانبياء والطواغيت ، وهي سنة ماضية تشمل الانبياء والمصلحين ومستمرة الى يوم الدين ..

3. جواز الهجرة من الوطن فرارا بالدين وبحثا عن الحرية بشكل عام و عن حرية العقيدة بشكل خاص.

4. جواز الدعاء على الطغاة والجبابرة بالهلاك والخلاص منهم حتى يسود السلام وتتحقق الحرية والعدالة والكرامة والمساواة بين البشر ، واختيارهم الدين والعقيدة والحاكم العادل دون إكراه أو ضغط من فئة تتحكم في مصير العباد.

5. يجوز للمُؤمنِين سؤال ربهم الصِحَّةَ في أبدانهم وحواسهم ، والتخلص من الآفات التي تنزل بهم ، وليس في هذا الدعاء لوم أو قدح في دين المؤمن.

6. استجابة الله لدعاء النبي صلى الله عليه وسلم وإزالة الوباء عن المدينة وهذا دليل على مكانة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم عند الله .

7. إحساس القائد بآلام جنوده وشعبه وأتباعه والقيام بما يكفل إزالة أسباب المنغصات والألام حتى يستقر المقام ويستقر المجتمع ، ويتضح ذلك من شعور النبي صلى الله عليه وسلم بما أصاب أصحابه من وباء المدينة ، والدعاء لله بإزالة الوباء من مستقرهم الجديد بما يسعد به المهاجرين والانصار .

8. قاعدة فقهية تفيد بأن صلاة القاعد نصف صلاة القائم وذلك في صلاة النوافل ، ولا تشمل الفرائض ، لأن القيام ركن من أركان الصلاة لمن يستطيعه ، فمن صلى الفرض جالسا وكان يستطيع القيام فإن صلاته باطلة لكنها لاتبطل في صلاة النوافل وانما يكون أجرها نصف أجر الصلاة قائما.

 

وبهذا أختم الحلقة (54) ونلتقي قريبا بإذن الله في الحلقة (55) مع فقه السيرة وظلال النبوة مع ملاحظة احتفاظي بالمراجع لعدم إمكانية نشرها في الجريدة في الوقت الحاضر..

اسأل الله ان يكتب لنا ولكم الاجر ” صدقة جارية” عن نشر سيرة وفقه أعظم نبي ورسول صلى الله عليه وسلم وان يجمعنا به صحبة في الفردوس الأعلى من الجنة .

د.محمد النجار 27 شعبان1442هـ الجمعة 9 ابريل2021م

Exit mobile version