شجوني مع الأسئلة الوجودية الملحة
بقلم: ياسر راجح
وشجوني أيضاً مصرية, لا أهدف من وراء طرحها إلى تعرية الذات و جلدها على مذبح اليأس, لكنها محاولة لازمة لمكاشفة النفس و إستكشاف أغوارها بحثاً عن هويتنا الإنسانية الضائعة من خلال رحلةٍ هامة يجب علينا جميعاً القيام بها أملاً في إسترداد وعي حقيقي مفقود.
فمن نحن؟, و ماذا نريد؟
أين نحن الأن؟, و هل نحن على الطريق الصحيح؟
كيف وصلنا إلى هذا الحال؟ و لماذا؟
قد تبدوا كل هذه الأسئلة الوجودية بسيطة ساذجة لأغلب الناس و ربما تعجب البعض من طرحها أساسًا و تسائل ساخرًا ماذا تريد؟ و هل الوقت مناسبًا لطرحٍ كهذا و التأمل فيه مع ما يعانيه العالم و نعانيه نحن أيضًا من وباءٍ و أزمات و مشاكل أخرى عديدة في شتى مناحي الحياة؟!
و الإجابة نعم, يجب علينا جميعًا أن نتوقف و لو للحظة يراجع كلٍ منا فيها نفسه متأملاً, يتسائل باحثًا عن ذاته أملاً في النجاة .
من نكون؟
ربما أجاب البعض قائلاً, نحن مسلمين, مصريين , مقدمًا الهوية الدينية على الوطنية و ربما أجاب البعض الأخر قائلاً بل نحن مصريين مسلمين , مقدمًا الهوية الوطنية على الدينية, و قد يجيب أخرين بل نحن بشر من بني الإنسان نعيش على أرض مصر و ندين بالإسلام , فتأتي الهوية الإنسانية عند هؤلاء بالدرجة الأولى تليها الوطنية فالدينية, و هكذا يختلف الأمر من شخصٍ لأخر.
هل نحن فراعنة أم عرب ؟ , متى كانت مصر هي مصر بذاتها , بذائقتها و طعمها و لونها الإنساني المميز , و ما هي تلك الذائقة , و ما هو هذا الطعم و اللون .
و الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة أبدًا وسط هذا الزخم الحضاري المتنوع عبر تاريخنا الطويل متعدد المراحل من فرعوني لقبطي ليوناني لفارسي لروماني لإسلامي ! , معادلة عجيبة, تفاعلت فيه الجغرافيا و التاريخ مع الإنسان, تبلورت خلالها شخصيتنا الحضارية بشكل يحتم علينا أن نتوقف مع انفسنا و نتسائل من نكون؟!
الصراع
كان العالم وهكذا سيظل مسرحاً للصراع من أجل السيطرة و التحكم في خيرات الأرض وثرواتها.
صراع تنوعت صوره و تعددت أسبابه و إختلفت على مر التاريخ أطرافه وتطورت وسائله بينما ظلت حقيقته واحدة أنه صراع من أجل المصالح.
و لما كانت البشرية قديماً في مراحل تطورها الأولى فقد كان الأقوياء يلجئون الى الإحتلال العسكري المباشر لأراضي الأمم الأضعف كوسيلة لنهب خيراتها و إسترقاق شعوبها المهزومة, كانت القوة وقتها هي العامل المحدد في ذلك الصراع.
لكن المشاهدات العملية لتجارب التاريخ أثبتت لهؤلاء أن للتوسع العسكري على هذا النحو تكلفة باهظة و خسائر في الارواح و المعدات لا تستطيع أن تتحملها دولة ما مهما كانت قوية فالحقيقة المبطنة لأي صراع أن الخسارة مؤكدة للمنتصر و المهزوم على حدٍ سواء غير أن الفارق الوحيد بين الطرفين أن الأخير قد بلغت خسائره ما يطلق عليه في العلوم الفيزيائية حد المرونة فلا يستطيع بعدها الإستمرار, فلم يعد أمامه سوى الخروج من اللعبة إما طواعيةً بالإستسلام و إما قهراً عندما يفقد السيطرة تماماً و لا يستطيع التراجع عن فنائه المحتوم !
كانت تلك النتيجة الهامة من أكبر الدروس التي خرج بها العالم بعد الحرب العالمية الثانية التي خلفت وراءها عدد هائل من الضحايا ما بين 62 الى 78 مليون قتيل مثلوا في ذلك الحين أكثر من 2.5 % من إجمالي تعداد السكان العالمي !
الوعي
و قد مثلت تلك النتيجة بدلالاتها القوية الواضحة نقطة تحول نوعي في طبيعة الصراع العالمي حيث لم تعد السيطرة المباشرة على الأرض عن طريق الأحتلال العسكري وسيلةً مقبولة لتحقيق المصالح و الأهداف بل صار الدور الأول و الأخطر في ذلك الصراع للسيطرة على العقول كوسيلة نظيفة و قوة ناعمة, الأمر الذي أضاف للصراع بعداً جديداً جعل منه صراعًا ثقافيًا بامتياز, المستهدف فيه أولاً و أخيراً هو الوعي.
من هنا صار الوعي بالذات و بالواقع المحيط بكل تحدياته و متغيراته السريعة المتلاحقة جواز المرور عبر بوابات الزمن للإنتقال من الحاضر بكل خيباته إلى المستقبل المنشود وإلا فإننا سنظل هكذا عالقين على حدود الزمن عديمي الوزن نسبح مع التيار في فضاء الجهل اللامتناهي, مسلوبي العقل و الإرادة مفعول بنا دائماً لا فاعلين.
الجهل
و الجهل المقصود نقيض للوعي المنشود .
و الجهل الموجود هو أسوء أنواع الجهل و أخطرها .
جهل مركب مدمر للعقل يخيل لصاحبه أنه يعرف حقائق الإمور في حين أن معارفه كلها مغلوطة مخلوطة لا يمكن أن تصنع سوى وعيٍ زائف مشوش رسخت له في مجتمعنا المصري عقود طويلة من الإحتلال العسكري المباشر فارسي, روماني, عثماني, فرنسي, إنجليزي .. الخ, تلته عقود أخرى من الإستبداد السياسي و الفساد ظلماتٍ بعضها فوق بعض, ولأن العلاقة بين الفكر و السلوك علاقة تفاعلية تخضع للقانون الفيزيائي للفعل ورد الفعل دائماً, فقد تمخضت تلك القناعات الزائفة في وعينا العام عن سلوكياتٍ متخبطة تتسم بالعشوائية, و صار التناقض الصارخ من أبرز سمات المجتمع على نحو يؤكد أن هذا التناقض مكون أساسي و أصيل في ثقافتنا الإجتماعية السائدة من قديم الزمان و ليس أبداً وليد اللحظة التاريخية الراهنة.
التناقض
ولا أدل على أصالة التناقض كمكون أساسي في ثقافتنا الإجتماعية السائدة من حضوره القوي في أمثالنا الشعبية, حكمة الأجداد المتوارثة جيلاً بعد جيل و كذا لغة الشارع المتداولة يومياً بما تتضمنه من ألفاظ ذات معانٍ لغوية متنافضة أو مقطوعة الصلة مع ما يقصد بها !
ولهذا التناقض أمثلة كثيرة في حياتنا نذكر منها :
-مصر هبة النيل .. هكذا نقول و نردد جيلاً بعد جيل في نفس الوقت الذي نكرم فيه هذا النيل و نرد له الجميل بالقاء المخلفات و جثث الحيوانات النافقة فيه !
-نهاجم الافلام الهابطة و نلعن صانعيها متباكين على الأخلاق و الفضيلة التي أهدرتها تلك الاعمال الفنية الرخيصة في ذات الوقت الذي تحقق فيه هذه الأفلام أعلى الأيرادات, الأمرالذي يشجع صانعيها على تقديم المزيد !
-نردد المثل الشعبي المشهور إدي العيش لخبازه ما يفيد إيماننا بأهمية التخصص في واقع الحياة بينما تجدنا جميعاً ما شاء الله بنفهم في كل شئ و بنفتي في كل حاجة و نقول أي حاجة بعلم وبدون علم حتى تهكم علينا الأخرون بالتساؤل الساخر الشهير “قابلت مصري قبل كده و سئلته عن حاجة و قال معرفش ؟!”
-إنتشار مظاهر التدين أو بمعنى أدق التدين الظاهري بين الناس منذ سبعينيات القرن العشرين وحتى الأن مصحوباً بتراجع ملحوظ في أخلاق المجتمع و إهتراء واضح في منظومة القيم السائدة فيه علاوة على غياب الإحترام المتبادل و تفشي البلطجة و العنف الدال على إنعدام الخشية من المجتمع و الجرأة عليه !
-ومن أخطر المجالات التي القى فيها التناقض بظلاله كأحد التجليات لحالة الجهل المركب في واقعنا الإجتماعي و ثقافتنا السائدة الموروثة, التعليم, التعليم الذي يعتمد في مناهجه و طرق تدريسه على التلقين و الحفظ دون فهم حقيقي عميق و دون الإهتمام بتنمية مهارات الفرد الإبداعية في التفكير و إستعمال العقل و المنطق و قدرته على الخيال و تكوين التصورات و التحليل و بناء الرؤى النقدية.
تعليم نظري لا يهتم بالتطبيقات العملية و التدريب على مواجهة مشكلات الحياة و تحديات الواقع ومتغيراته المستمرة .
تعليم لا يهدف إلى تحصيل المعرفة و بناء شخصية الإنسان بقدر ما يهدف إلى حيازة الشهادات والدرجات العلمية كوسيلة لأكل العيش لجميع أطراف العملية التعليمية وكرمز للإستعلاء و الوجاهة وتأكيد الصعود الإجتماعي .
تعليم لطباعة الكتب والملازم و إعطاء الدروس الخصوصية لجني المال وإنفاقه في إقتناء وسائل الرفاهية الحديثة في الحياة .
و المحصلة تدفق الألاف من الخريجين إلى سوق العمل كل عام يحملون شهادات تشبه إلى حدٍ كبير أوراق العملة الزائفة التي لا تتضح لك حقيقتها إلا عند التعامل!
وقمة التناقض الذي يرقى لمستوى المأساة أن تجد الغالبية العظمى من هؤلاء الخريجين مضطرة للعمل في أي شئ حتى و إن لم يكن يمت بصلة لما درسوه و تخصصوا فيه نظراً لضعف فرص العمل بشكل عام حيث يكتشفون أنهم قد أمضوا جزءًا كبيرًا من أعمارهم يدرسون شئ عليهم أن يمضوا الجزء الأخر المتبقي منها في نسيان الشئ ذاته من اجل الحصول على أبسط ضروريات الحياة الإنسانية الكريمة و مستلزماتها ! , شئ مضحك بالفعل وشرا لبلية ما يضحك, يا لها من كوميديا سوداء!
الحل في التغيير
أضحى التغيير ضرورة حتمية من أجل البقاء و بغير ذلك لا أمل لنا في النجاة . و من السذاجةِ بمكان الإعتقاد بأن التغيير المقصود عبارة عن فعلٍ ما ينصب على تغيير شخص الحاكم ونظامه بأخر, التغيير المطلوب أعمق كثيرًا من كونه مجرد تغيير سياسي أياً كان أثره . فالحاكم مهما كانت قدراته و إخلاصه ونزاهته لا يستطيع بمفرده أبداً أن يصحح واقعًا متجذرًا منذ مئات السنين, لم يعد الزمن زمن البطولة المطلقة و الفارس الوحيد .
التغيير المطلوب تغيير راديكالي (جذري) في ثقافة المجتمع ومفاهيمه السائدة في شتى مناحي الحياة في التعليم , التدين , العمل , الذوق العام , أنماط الإستهلاك , الرؤى و التصورات , العادات والتقاليد , نظرتنا لأنفسنا و للأخرين, طريقتنا في التفكير .
التغيير المطلوب يجب أن يبدأ من داخل ضمائرنا جميعاً فلن يأتي ابداً من الخارج, لكن كيف يبدأ كل منا تلك الرحلة و الجميع مشغول بأساسيات الحياة من مأكل و مشرب و ملبس و بأعبائها التي لا تنتهي من ضغوط إقتصادية و تداعياتها المتمثلة في إهتراء قيم المجتمع و أخلاقياته الأخذة في الإنحدارإالى الاسوء يومًا بعد يوم .
التغيير المطلوب يستلزم مراجعة دقيقة للذات , يستلزم درجة ما من التسامي فوق كل ما سبق من مشاكل الحياة اليومية ومشاغلها, درجة من التجرد وإعادة ترتيب الأولويات في حياتنا مصحوبةً بنظرة عميقة للحاضر و المستقبل و قبل ذلك كله بنظرة أعمق للتاريخ, تاريخنا الشاسع, المتنوع, العريق, يتبعه تحديد شديد الدقة لهويتنا و شخصيتنا الحقيقة بعيدًا عن أي مؤثرات خارجية أو تشويش, وقتها فقط سنعرف جيدًا من نكون, ماذا نريد و كيف نقرأ واقعنا المعاصر و نفهمه و نواجه تحدياته و
نتعامل معها كمحطة أساسية للإقلاع في تلك الرحلة اللازمة شديدة الأهمية بحثًا عن الذات .
و الخطوة الأولى على هذا الطريق تبدأ حتماً بتحرير العقل الجمعي العام من القناعات الزائفة و المعارف المخلوطة المغلوطة التي تفسد عليناأ النعم على الإطلاق, نعمة الحياة التي ربما نولد و نعيش و في نهاية الأمر نموت و لم نعرف لها معنى !
و لن يتحرر العقل الانساني أبداً إلا بإدراك الحكمة, و إدراك الحكمة لن يكون بغير المعرفة, و العلم هو السبيل الوحيد إلى تلك المعرفة, و أبسط وسائل تحصيل العلم هي الدراسة و التعلم, و أخطر هذه الوسائل و أصعبها هي التجربة , فتجارب الحياة دروس قد يتعلم منها الانسان أحياناً, لكنها كثيراً ما تبلغ في قسوتها حداً يسوء معها حظه و يتحطم فيها ليس فقط مستقبله و إنما حياته ايضاً !
12 سبتمبر 2021