بقلم / محمد عبد العاطي
نالت قضية الدين والعلمانية قدرًا كبيرًا من الأهمية، ودارت حولها المناقشات والمحادثات، وكتبت فيها الرسائل، فالدين بشكل عام قوة قوية جدًا من الممكن أن يعمل بشكل إيجابي أو سلبي، اعتمادًا على ما يحتويه من عقيدة، وعلى الطريقة التي يتم تفسيره بها وتطبيقه، وهذه مسألة خطيرة تتطلب ممارسة كاملة لإعمال العقل البشري، وجهدًا جبارًا للوصول إلى مراميه وغاياته.
فالدين له أثر كقوة مهيمنة، وله قوة مؤثرة في المجتمع من حيث التمسك بالأفكار والقيم الدينية وله سلطة لا يمكن إنكارها، والأشخاص الذين يشتركون في تلك القيم ويقومون بتفسيرها هم الأجدر بالحكم عليها من خلال التجارب وتبادل الأفكار، لذا، فإن وجود بيئة فكرية ناضجة تصبح ذات أهمية حاسمة عند تناول فكرة أو قيمة معينة من القيم التي ترتبط بممارسة من ممارسات الدين.
و لا يقصد بمفهوم سلطة الدين في الإسلام أن يكون ممثل الدين هو الحاكم للدولة والمسيطر كما هو الحال مثلًا في النظام الإيراني، وإنما المقصود هنا هو مدى مراعاة أحكام الشريعة في الأحكام، وعدم سن القوانين والنظم التي من شأنها أن تقوض كلياته، وتحيد به عن مقاصده.
ففي حقبةٍ من حقب التاريخ، بدا للكثيرين أن الدين معيقًا لوسائل التقدم، وظهر وكأنه مجالًا حصريًا لبعض الناس، وأصبح الدين عقبة أمام كل جديد، وهنا ظهر مفهوم العلمانية، وبدأ الصراع بين سلطة العلم وعباءة الدين، وبدأت محاولات الانسلاخ عن الدين والاتجاه إلى إعمال العقل المحض والنفعية المطلقة .
قوة الدين في مواجهة العلمانية
أخطر مشكلة في المجتمع المسلم هي أن المجتمعات الإسلامية تعاني من مشكلتين:
عدم الإحساس الحقيقي بأهمية القرآن الكريم في وقتنا الحاضر، والذي لا يمانع أبدًا من السعي نحو التقدم، والدعوة إلى التطور بما يسد احتياجات الإنسان، ويجلب له الراحة والسعادة.
المخاوف من تناول بعض المشكلات قد يودي بها لتنحرف في اتجاهاتها عن الآراء الحقيقية التي ينادي بها الدين، ومن هنا تظهر الآراء المتطرفة والأفكار الهدامة.
وفي هذا السياق، يتعين علينا تحديد مصطلح “العلمانية”؛ وهو العمل على تحول مجتمع ذي وثيقة وهوية دينية إلى قيم ومبادئ لا دينية، وفصل النظام السياسي عن الأيديولوجيات الدينية، وتوسيع النظام السياسي لأداء تلك الوظائف التنظيمية التي كانت تؤديها المؤسسة الدينية سابقًا، والتأكيد على فصل المجتمع وسلوكياته عن أواصر الدين.
وبناءً على هذا الفصل بين السلطة الدينية والسلطة السياسية قد يتطور الأمر ويكون ضارًا إذا حدث، وينتج عن هذا التنافر بين السلطتين التنازع والشقاق، بيد أن الإسلام لا يرى فصلًا بين سلطة الدين وسلطة الحكم، فبينهما تكامل ينبغي أن يستمر طوال الوقت، وينبغي أن يحدث بينهما التناغم والتكامل.
لماذا فشلت سياسة العلمانية في تركيا؟
ظهرت كثير من المشكلات أثناء تطبيق مفهوم العلمانية نتيجة لتطبيقها بشكلها الراديكالي، ففي تركيا، على سبيل المثال، حاول أتاتورك إقحام العلمانية في المجتمع التركي دون نجاح يذكر، وأحدثت الإجراءات العلمانية تأثيرًا طفيفًا في مناطق محدودة، وكلما ابتعدنا عن العاصمة أو المدن الكبرى، ضعفت الفرصة في احساس سكانها بالتغيير، ولم يظهر للعلمانية وجه ملموس.
وبعد وفاة أتاتورك في عام 1938، أصبحت مقاومة العلمانية أكثر وضوحًا في معظم مناطق تركيا، وفي المجتمعات الريفية والبدائية حيث تستند جميع المؤسسات على الدين، مما يعطيها قيمة وقوة في مواجهة محاولات التغيير الجديدة.
وقد حاول أتاتورك الترويج لفكرة أن الدين يصبح ضارًا عندما يتم توسيعه ليشمل مؤسسات دنيوية أو علمانية، لأنه يمنع هذه المؤسسات من التكيف مع حاجات الحياة.
كما أراد جعل جميع الأمور الدينية تحت سلطة الحكومة المركزية، ورأى أن الفصل بين وظائف السلطتين سيكون مفيدًا لكلاهما، حيث لا يمكن للناس أن يسقطوا الديانة التي يحملونها، ولا يمكنهم أيضًا الاستغناء عن ضرورات الحضارة المعاصرة.
وبالرغم من ذلك فقد تأثر مفهوم العلمانية بشكل كبير بعد سقوط أتاتورك، وبدأت أفكاره التي يروج لها في الانحسار، وعادت سلطة الدين مرة أخرى رويدًا رويدًا تسيطر على الفكر بين ربوع تركيا، وما زالت الكلمة العليا لسلطة الدين.
هل يمكن الجمع بين تعاليم الإسلام والعلمانية؟
من الواضح أن الإسلام يرفض العلمانية بشكلها المقيت الذي يعني فصل الدين عن الحياة، أو سلخ الدين من عقول الناس، ومن زاوية أخرى فقد ظهرت العلمانية في ثوب جديد يحاول لملة أشلاءه الممزقة، ويدعو لوجود حل وسط يربط بين هيمنة الدين والحكم.
وهنا يمكن الجمع بين التعليم الديني والتربية التي تقوم على أساس العلم بحيث يتم إعطاء كل شخص الفرصة ليكون ملمًا جيدًا بأساسيات الدين، مما يعني دراسة القرآن الكريم، والإلمام بجانب من العلوم الشرعية بما يحفظ عقائده، وينظم سلوكياته.
كما يفسح المجال للشخص نفسه للاطلاع على كل جديد، ويدعوه للابتكار والإبداع، ولا يقف الدين أبدًا حاجزًا يمنع الأشخاص من السعي والبحث والإبداع طالما أصبح مراعيًا لمعتقداته وأمور دينه.
إن أثر الدين كقوة مهيمنة في مواجهة العلمانية لا يعني فصل الدين عن الدولة، فالفصل بين الدين والدولة في السياق الإسلامي، يعني تحييد سلطة وتأثير طبقة ليس لها أي سبب شرعي في الوجود، وهذا مبدأ لا ينادي به الإسلام ولا يدعو له.
وفي نفس الوقت فإنه يجب على الدولة ألا تغض الطرف عن المنظمات أو الجماعات الدينية القائمة، سواء كانت مؤسسات تعليمية دينية أو أحزاب سياسية دينية، ولا يمكن أن يكون لها الحق في أن تكون منفصلة عن الدولة ولها مقوماتها، وحريتها في الشؤون الدينية وغيرها، لأنها يمكن ببساطة أن تؤدي إلى التعصب .
وفي السياق ذاته، تحتاج المؤسسة الدينية إلى أن تكون بنية منفصلة ذات استقلالية محددة الملامح، وواضحة المعالم، ويتم متابعتها ومراقبتها من قبل سلطة الدولة.
وهذه المؤسسات الدينية ينبغي أن يكون القائمون عليها من أصحاب الأفكار المستنيرة، المنفتحون على المناقشة، والحوار والنقد، والتعامل مع جميع الأطراف بحيادية دون تعصب أو اتباع لفكرٍ منحرف.
هل المجتمعات الإسلامية في حاجة إلي العلمانية؟
هناك حاجة ماسة في المجتمعات الإسلامية لأصحاب الفكر المستنير ممن لديهم قدرة تامة على تفسير الإسلام وتقديمه كهيئة فكرية يمكن أن تلبي تحديات العصر الحديث وتفي بمتطلبات المجتمع العلمي الحديث.
وبالتالي فإن العالم الديني ينبغي أن يكون ملمًا بما هو جديد في عصره، وينبغي أن يساير روح التقدم، وعندما يصبح العلماء أقل معرفة بما حولهم، تصبح مناقشة المشاكل بطريقة مفتوحة وصريحة مستحيلة في كثير من الأحيان، ويظهر الخلل في الرؤى والتوجهات.
وعلى المجتمع الفكري أن يكون لديه قيم حديثة ووعي اجتماعي وخبرة ذاتية، ولا ينبغي أن يكون كالرأسمالية التي تنتج مجتمعاً تديره إجراءات شبيهة بالآلات دون أي معنى جوهري.
وفي المجتمع العلماني، يقتصر الدين على العلاقات الشخصية، وليس له أي تدخلات في العلاقات العامة، ولا يمكن الدخول في مجال الصناعة دون أن يصبح المجتمع علمانيًا، يؤمن بالتخصص، ويسعى للاستثمار في كل فكر جديد بما يحدث النقلة النوعية من المجتمع الذي يعتمد على الزراعة إلى الدخول في عالم التصنيع والثورة الصناعية، ويمكن القول بأن علمانية المجتمع مهدت الطريق للدخول في عصر الصناعة.
ووفقا للرؤى الإسلامية، فالإسلام حقيقة واحدة غير قابلة للتجزئة، وفي الإسلام، تقع على عاتق الدولة مسؤولية تحويل المبادئ المثالية للمساواة والتضامن والحرية إلى قوى وإمكانات يتم تحقيقها في منظمة إنسانية محددة.
وأيًا ما كان المجتمع الذي نعيش فيه، فلا تنافر بين الدين ومقومات الحياة بهذا المجتمع، ولا يقف الدين الإسلامي ضد أي محاولة للتغير والتأثير في المجتمع بشكل إيجابي، يحدث له التطور ويسعى به للتمدن.
موقع الدين في المجتمعات الإسلامية
ما هي أطر قوة أثر الدين في الإسلام؟ يعتبر الدين في الأساس نمط حياة، وهو الطريقة الوحيدة الجادة للتعامل مع الواقع، ففي المجتمعات الإسلامية، يتحقق الفشل عندما لا يوجد فهم كامل لوحدة القرآن وتماسكه ككتلة واحدة؛ وعندما يتم التركيز على بعض الفقرات أو الآيات المنفصلة من القرآن الكريم، يحدث الفهم الخاطئ وتظهر الرؤى الناقصة، وتضيع الفكرة الشمولية ولا يتم تحقيق المفهوم العام للقرآن الكريم بشكل عام.
وقد أدى ذلك إلى واحدة من المعضلات الأساسية للمجتمعات الإسلامية في عالمنا المعاصر إلى اليوم، وأصبح صراع العلمانية والإسلامية، بما في ذلك الإدراك الذي أسيء فهمه من الجانبين فالإسلاميون يرون أن العلمانية تحاول تقويض الإسلام وتقاليد المجتمع الإسلامية، والعلمانيون يرون أن الإسلاميين يحاولون السيطرة على أفكار الناس من خلال معتقداتهم، ومحاولة التأثير عليهم، والرجوع بهم إلى عصر الناقة ورعي الغنم.
بينما يركز القرآن الكريم على تأسيس نظام اجتماعي شامل قائم على العدالة الاجتماعية والاقتصادية والقيم الأخلاقية، ولا يمكن أبدًا فصل الدين عن باقي مناحي الحياة، فالمسلم يرى حياته كلها كتلة واحدة متماسكة دون تفرقة بين ما هو ديني أو سياسي أو اجتماعي.
المراجع
-الحداثة الفوقية.. لماذا فشلت العلمانية التركية؟ برس ترك
-محمد علي البار، العلمانية جذورها وأصولها، دمشق: دار القلم.
-موقع طريق الإسلام: هل العالم الإسلامي اليوم في حاجة إلى العلمانية؟
-موسوعة ويكيبيديا .العلمنة