7 يوليو ذكرى ملحمة الخلود

بقلم /حسن السعدني
في مثل هذا اليوم، السابع من يوليو، تهتز القلوب وتذرف العيون دموعًا حرى، وتنبض الأرواح بعزة الوطن، حين نتذكر ملحمة من ملاحم البطولة والفداء، خطّها رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه، وكان قائدهم أسطورة حقيقية، لا تنتمي إلى العسكرية المصرية، بل إلى الضمير الجمعي للأمة كلها، هو الشهيد البطل العقيد أركان حرب أحمد المنسي، قائد الكتيبة 103 صاعقة.
لقد كتب المنسي ورجاله في مثل هذا اليوم من عام 2017 واحدة من أنبل صفحات المجد، في معركة البرث في رفح بشمال سيناء، تلك الأرض التي كانت ولا تزال مهدًا للشهداء، وميدانًا يتجلى فيه جوهر الانتماء والرجولة، حيث لا مكان هناك إلا لمن وهبوا أرواحهم لله، حبًّا في الوطن، وحرصًا على الأرض والعرض.
لم يكن المنسي مجرد ضابط يؤدي واجبه في صمت، بل كان قائدًا بحجم الحلم، فارسًا مغوارًا يجمع بين الشجاعة والتواضع، وبين الحزم والرحمة. شهد له جنوده بأنه كان يشاركهم تفاصيل الحياة، ويقف بينهم في البرد والحر، لا يميز نفسه عنهم إلا بالرتبة، لكنه كان الأقرب إلى القلوب. لم يكن يقودهم بالكلمات، بل بالمواقف، وكان شعاره الدائم: “نموت ولا تموت مصر”.
وقد تجسدت هذه العقيدة في سلوكه حتى اللحظات الأخيرة، حين حاصرت جماعة من الإرهابيين كمين البرث في هجوم غادر فجر السابع من يوليو، فثبت المنسي ورجاله كالجبال، وتصدوا ببسالة أسطورية للهجوم الذي كان يهدف إلى السيطرة على الكمين ومحو من فيه. لكن الأبطال أبَوا إلا أن يخلّدوا أسماءهم بدمائهم الزكية، دفاعًا عن تراب الوطن الطاهر.
حين باغت الإرهابيون الكمين بتكتيك مدروس، كانت نيتهم الإجهاز على كل من فيه، لكنهم لم يعلموا أن خلف الساتر الترابي رجالًا آمنوا بأن الشهادة طريق الخلود. تصدى المنسي وجنوده للهجوم ببسالة، ودارت معركة غير متكافئة عددًا وسلاحًا، لكنها كانت متكافئة بل راجحة في الكفة التي تزن الإيمان والولاء.
ظل المنسي يقاتل حتى اللحظة الأخيرة، لم يهرب، ولم يتراجع، بل أخذ يوجه الجنود ويشد من أزرهم، ويطالب بالإمداد، وهو ينزف دمه الطاهر. وبالرغم من إصابته، ظل صوته يدوي عبر اللاسلكي:
“تمام يا أفندم إحنا بنقاتل.. ومش هنسيب مكاننا.. استشهد عدد كبير من رجالي، بس مش هنسيبهم، هنقاتل لآخر نفس.”
كلماته لم تكن مجرد نداء استغاثة، بل كانت صرخة حق في وجه الباطل، ترن حتى الآن في أسماع كل مصري حر، وتُدرّس للأجيال القادمة كيف يكون الثبات، وكيف تكون البطولة.
لم يكن المنسي وحده في الميدان، بل شاركه رجال آمنوا به وبالوطن، فقاتلوا حتى الرمق الأخير. من بينهم البطل أحمد شحاتة، وعلي علي، وأحمد إمام، وغيرهم من أبناء الصاعقة الذين سطروا ملحمة من نور، وأثبتوا أن مصر لا تنسى أبناءها، ولا تفرّط في أرضها، ما دام فيها رجال كهؤلاء.
وقد نالوا جميعًا شرف الشهادة، وبعضهم نجا ليحكي كيف أن القائد لم يترك موقعه حتى استشهد، رافعًا رأسه، باسم الوجه، مطمئنّ القلب، وكأن الملائكة كانت تحفه من كل جانب.
لم يكن استشهاد المنسي نهاية لحكايته، بل بداية لخلوده. فقد أصبح رمزًا وطنيًّا خالدًا، يتردد اسمه في البيوت، وتُروى بطولته في المدارس، ويتزين بها ضمير الوطن. ومَن ينسى عبارة الرئيس عبد الفتاح السيسي عنه حين قال:
“المنسي في قلوب المصريين، وقدّم نموذجًا يُحتذى.”
وها هو اسمه اليوم يُخلّد على المدارس، والشوارع، والميادين، وتُروى قصته في الدراما والكتب، لتكون مشعلًا يضيء درب الأجيال، ودليلًا على أن الوطن لا يُبنى بالكلمات، بل بالدماء الزكية والتضحيات الصادقة.
يا منسي، يا من سكنت قلب كل مصري، يا من أثبت أن البطولة لا تُشترى ولا تُصنع، بل تنبع من قلب أحب الله والوطن. سلام عليك يوم ولدت، ويوم جاهدت، ويوم ارتقيت شهيدًا.
وسلام على رجالك الأبطال، الذين صدقوا الوعد، فكتبوا بدمائهم سطور العزة والكرامة.
وفي ذكرى استشهادك، نرفع رءوسنا فخرًا، ونؤكد أن مصر لا تُنسى شهداءها، وأنك ستظل حيًّا فينا، ما دامت مصر تنبض بالحياة.
رحم الله الشهيد أحمد المنسي ورجاله، وأسكنهم فسيح جناته، وجعلنا على دربهم من السائرين.